[read]ثم قال: فالجاذبية إذًا على قدر علم الإنسان إلى الآن، هي القوة التي يمسك الله سبحانه بها السموات والأرض في مواقعها التي قدرها لها، أو هذا - إن شئت - هو ما أدركه الإنسان إلى الآن من سر قوله تعالى في سورة فاطر: ﴿
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ﴾ [فاطر: 41]، وفي قوله تعالى: ﴿
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾ [الرعد: 2]، وما يشبهها من آيات القرآن الكريم إشارة إلى قوة الجاذبية الخفية التي هي بعد تقدير الله لها، سبب بقاء أجرام السماء في أماكنها ومداراتها المقدرة لها، ثم تكلم على قانون رفع الأثقال، ثم قال: فقانون الجاذبية هو مفتاح فَهْم أمثال الآيتين السابقتين من كتاب الله تعالى، إلا أن الإشارة إلى القانون في تلك الآيات الكريمة، إشارة عامة من ناحية الوصفية، لكن في القرآن الكريم آية تشير إليه إشارة خاصة من ناحية الكمية الحسابية، وهي قوله تعالى في سورة الواقعة: ﴿
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾ [الواقعة: 75، 76]، فإن في هذه الآية الكريمة إشارة واضحة إلى أثر المسافة في قوى التجاذب أو في قوى الجاذبية بين الأجرام السماوية، فإن المسافات بين النجوم هي المسافات بين مواقعها، وتقدير الخلق سبحانه مواقع النجوم وأجرامها، بحيث يكون أثر المسافات بينها في قوى تجاذبها متناسبًا مع ما أراد الله لها من حركة ونظام، هذا التقدير آية من آيات الله في الكون، وسر من أعظم أسرار خلقه، وإليه من غير شك يرجع بعض سر قوله تعالى: ﴿
لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [غافر: 57]، وإلى عظمة هذه الآية وهذا السر نبه الله سبحانه الإنسان بقوله: ﴿
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾ [الواقعة: 76]، وقد منَّ الله سبحانه على الإنسان فمكنه من النظر، حتى علم مِن هذا ما هو دليل عجيب على وجود الله وقدرته ووحدانيته، فإن تقدير كتل النجوم والمسافات بينها على كثرتها الكاثرة، بحيث تكون قوى التجاذب الواقعة على كل نجم هي سبح ذلك النجم في فلكه إن كان من السوابح، أو ثبوته إن كان من الثوابت.
هذا التقدير يستحيل بداهةً وعلمًا أن يكون قد وقع إلا بتقدير عليم حكيم قادر: ﴿
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ * وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [الزخرف: 84، 85]؛ ا.هـ.
﴿
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ ﴾ [الرعد: 3]؛ أي: جبالًا شامخات ثوابتَ، وقد غلب على الجبال وصفها بالرواسي، وصارت الصفة تغني عن الموصوف؛ قال تعالى في سورة الحجر:﴿
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ﴾ [الحجر: 19، 20]، وقال في سورة فصلت: ﴿
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا ﴾ [فصلت: 10]، وقال في سورة النحل: ﴿
وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [النحل: 15]، وقال في سورة لقمان: ﴿
وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ﴾ [لقمان: 10]، وقال في سورة النمل: ﴿
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ﴾ [النمل: 61]، وقال في سورة عم: ﴿
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴾ [النبأ: 6، 7].
وذلك لأن الكرة الأرضية تجري في حركتها التي قدرها الله في هذا الفضاء العظيم، كجري السفينة في البحر الخضم العظيم الأمواج بأمر الله، فكلما خفَّت السفينة مادت وتلاعبت بها الأمواج، واشتد اضطراب حركتها، فأخذ ركابها الدوار، واضطربت حركات الدم في مجاريها، واختل ميزان حياتهم، وعجزوا كل العجز عن القيام بأي شيء من شؤونهم، واعتبر ذلك بحركة زلزلة الأرض إذا استمرت ثواني قليلة، وتأمل ماذا يحصل للناس من الاضطراب والفزع، وماذا يكون من أثر ذلك في الأرض من تشقق، وفي البحر من طغيان!
فإرساء الأرض بالجبال لضبط حركتها في دورانها السريع بهذا النظام المحكم الذي ذللها للإنسان، وييسر له الحياة على هذه الكرة المعلقة في هذا الفضاء العظيم، فيطمئن في ليله وينام هادئًا، ويطمئن في نهاره ويسعى في مناكبها، ويأكل من رزق الله، ذلك كله من أدل الدلائل على عظمة الرب القادر الحكيم الرحيم الذي سخر هذه الكرة الأرضية، وحفظها من الْمَيَدانِ في حركتها السريعة بتلك الجبال الرواسي، وهو من أقوى الدواعي لإخلاص العبادة له وحده، لا إله إلا هو العزيز الحكيم.
وهو من أعظم النذر والتحذير من معصيته، والفسوق عن أمره، واتخاذ آلهة من دونه بأنه قادر أن يبدل نظامها، ويمنع عنها تلك القوى التي تمسكها، وتضبط حركتها، ويزلزلها زلزالًا شديدًا يقضي بالدمار والهلاك على أولئك الفاسقين عن أمره، ولن يجدوا لهم من دونه وليًّا ولا نصيرًا.
ومن رحمته سبحانه وعظيم فضله أن أجرى فيها (أنهارًا)، ينزل لها المياه الغزيرة من السماء على رؤوس تلك الجبال الشاهقة، فتنحدر إلى الوديان بين تلك الجبار، ويكون من تلك الجبال كأمثال السدود والخزانات التي تجمع المياه، وتحفظها من الضياع في الرمال والسهول المنبسطة.
فإذا اجتمعت هذه المياه، وصارت سيولًا عظيمة جرت مندفعة بقوة عظيمة من كثرتها وغزارتها، من الجاذبية التي وضعها الله بحكمته في الأرض، وطلبت تلك السيول أقرب مواطن سطح الأرض من مركزها، وهو سطح البحر، فتشق لها في طريقها مجرى في الأرض بقوة اندفاعها، حتى يصير نهرًا عظيمًا يتفرع عنه نهيرات وترع وقنوات يبعث الله بها الحياة في الأرض، فتهتز وتربو، وتنبت من كل زوج بهيج.
﴿
وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ﴾ [الرعد: 3]، و"الزوج" الفرد الذي له قرين من جنسه، يعني الله سبحانه أنه جعل في الأرض بسبب تلك الأنهار من كل الزروع والأشجار التي تُثمر الفاكهة والحب ذا العصف والريحان، وأشار سبحانه إلى أن السنة في هذه الزروع والأشجار تجري على التزاوج بين الذكر والأنثى؛ كما تجري السنة في الإنسان والحيوان.
وهذا أيضًا من إعجاز القرآن وأنه من تنزيل الحكيم الخبير على النبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليدبروا آياته، وليتذكر أولو الألباب، فإن العرب أمة أُمية لم تكن تعرف عن هذا التزاوج بين النبات شيئًا مما أظهرته الدراسات المتبحرة التي تقوم بها في هذا الزمان الجامعات العلمية، وتؤلف في شرحها المؤلفات الضخمة، وتتخذ لأجلها الجهازات الدقيقة لمعرفة ما فيها من مختلف المواد الكيميائية، فأولى بأهل هذه العلوم ثم أَولى أن يسارعوا إلى الإيمان بالقرآن وآياته، ويخضعوا علومهم ونظرياتهم لعلومه وأحكامه، وأنهم لقريبون إلى هذا الإيمان، لو وجدوا من أهل القرآن من يدعوهم بلسانهم، ويضع نُصب أعينهم من هداية القرآن ما يضيء لهم الطريق: ﴿
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 99]، ﴿
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 57]، ﴿
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ﴾ [طه: 53، 54]، وهذا المعنى في القرآن لا يحصيه العد؛ لأنه من أهم ما يمس حياة الإنسان لشدة حاجته المتكررة في كل يوم إلى ما يخرجه الله من ثمرات الأرض ونباتها: ﴿
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [الرحمن: 13].
ومن أبرز الآيات وأظهرها على عظمة ربنا سبحانه، وواسع رحمته وفضله على الإنسان - أنه: ﴿
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ﴾ [الأعراف: 54]؛ أي: يغطي كل منهما الآخر ويخفيه مدة معلومة لحاجة الإنسان إلى ظل منهما، وعدم غناه عن واحد منهما، بحيث لا يستطيع أن يعيش في واحد بدون الآخر؛ قال تعالى: ﴿
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [القصص: 71 - 73].
والليل والنهار آيتان عظيمتان تحدَّى الله بهما الناس في كثير من آي الذكر الحكيم، ونعمتان جليلتان أكثر من التذكير بهما والحض على شكر مُسديهما، كذلك بإخلاص العبادة والطاعة له سبحانه؛ قال تعالى: ﴿
فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ [الأنعام: 96]، وفيهما من آيات الشمس والقمر والنجوم والقوى الحيوية في النهار والسكون، والنوم والسبات في الليل، وما سخر في كل منهما للإنسان من أسباب القوة والحياة، وما كفل له فيهما من العيش ومتاع الدنيا، وغير ذلك مما لا يدخل تحت عد ولا حصر مما نبه إليه بقوله: ﴿
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الرعد: 3]، فهو سبحانه يدعو ويحض ذوي السمع والبصر والفؤاد أن يتأملوا ويتفكروا كثيرًا في هذه الآيات، ليعرفوا منها قدر هذه النعم، فيقوموا بحقها من الشكر لخالقها ومُسخرها والمنعم بها؛ بإخلاص العبادة له وحده، والطاعة له ولمن يصطفي من رسله، ولما ينزل من شرائع فيها تمام السعادة والنعيم والحياة الطيبة لمن يعقلها عن الله، ويعتصم بحبلها، ويستمسك بعروتها، ولكن أكثر الناس أعماهم الهوى والجاهلية الضالة عن تلك الآيات، وأعرضوا عن التفكر فيها وتأمَّلها، فكفروا بأنعم الله، واستعملوها في محاربة ربهم ومشاقته بأنواع الظلم والشرك والفسوق والعصيان.
وفي قوله سبحانه: ﴿
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ ﴾ [الرعد: 4]؛ أي: متشابه وغير متشابه، ﴿
يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [الرعد: 4]، توضيح وتفضيل لدقائق تلك الآيات وما فيها من بديع صنع الله، وبليغ حكمته وقدرته، وأن التفكر فيها أمر سهل على من سهله الله عليه، واتخذ السبيل إليه من العلم والنظر والبحث، والتأمل فيما يقع عليه بصره من بديع صنع الله في الأرض والزروع والثمار، فإنه يرى أجزاء الأرض مختلفة في معدنها وطبيعتها، فهذه أرض خصبة، وتلك سبخة، وأخرى رملية، وأخرى حجرية، وهذه معدنية للنحاس، وأخرى للحديد، وأخرى للذهب، وأخرى للفحم الحجري، وأخرى للبترول، وأخرى للأملاح، وهَلُمَّ جرًّا، ثم ينظر في القطعة الواحدة المتجاورة أجزاؤها، فيرى أن الله قد أخرج منها مختلف الأشجار والثمار، ويرى بين هذه الأشجار والثمار من عجائب صنع الله وبديع خلقه في أنواع الاختلاف في الأحجام والألوان والطعوم، وما جعل في كل شجرة وثمرها من الخصائص الطبية وغير الطبية ما يدهش العقول.
وكم وجَّه الله نظر الإنسان ودعاه إلى التأمل والتفكر؛ ليعرف الله بآياته معرفة عن علم ويقين، لا عن تقليد للآباء والأجداد، فإن المعرفة التقليدية جرته إلى الشرك بالله وتسويته بمن لا يخلقون شيئًا وهم يُخلقون، أموات غير أحياء، وما يشعرون أيان يبعثون.
دعا الله الناس إلى التفكر في آياته لعلهم يعقلون، فإن العقل لا يستيقظ ولا يَحيا إلا بتغذيته بغذائه النافع، ولا غذاء له إلا التفكر في آيات الله الكونية، وتدبر آياته القرآنية، وما ماتت العقول وقيِّد أصحابها بمقود البهيمة، إلا لبعدهم عن ذلك التفكر والتدبر، وطاعتهم شياطين الإنس والجن؛ باتخاذ التقليد الأعمى شعارًا لهم، واعتقادهم أن الله حرَّم عليهم هذه التفكر والتدبر؛ لأنه قصره على طبقة من الناس دونهم، وخص به جماعة من المتقدمين عليهم في الزمن، والقرآن كله نعي لهؤلاء المقلدين الجاهلين الذين جردوا أنفسهم من نعمة النظر والعقل، وكفروا بنعمة الله عليهم في السمع والبصر والفؤاد، ثم كفروا بكل نعم الله عليهم في الحرث والأنعام، ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا على مر الأيام وكر الليالي، بما غرقوا فيه من بحار ظلمات الجاهلية، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والهدى هدى الله، فهم كل يوم يموتون عدة موتات، وكل يوم، بل كل ساعة يدعوهم الله إلى الهدى، فلا يستجيبون، ويدعوهم الله ورسوله إلى الحياة فلا يُلبون، فهم في ضلالهم يعمهون، وبعبادة الطواغيت مفتونون فتنة أحاطت بهم من جميع أقطارهم: ﴿
وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 146]، ختم الله على سمعهم وقلبهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، فلهم عذاب عظيم في الدنيا والآخرة؛ لأنهم حرموا من لذة العلم والدين، بل حرموا الإنسانية وألحقوا بالأنعام والدواب، بل هم شر الدواب الصم البكم الذين لا يتفكرون في خلق الله ولا يعقلون عن الله: ﴿
لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ﴾ [الأعراف: 179].
نسأل الله العافية من ذلك، وأن يُديم علينا نعمة السمع والبصر والفؤاد، وأن يديم علينا التوفيق لشكرها بالتأمل في آياته الكونية والتدبر لآياته القرآنية.
مجلة الهدي النبوي: المجلد السادس، العدد (5-6)، ربيع الأول 1361هـ
الالوكة
[/read]