أي: فتلقَّن آدم وأُلهِمَ من ربه كلماتٍ ألقاهن الله إليه ووفَّقه لقولهن، بفضل ربوبيته عز وجل الخاصة له وامتنانه عليه، قالها آدم وزوجه وتوسَّلا إلى الله بها، وهذه الكلمات ما جاء في قوله تعالى في سورة الأعراف: ﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 23].
وفي هذه الكلمات توسل آدم وحواء عليهما السلام بربوبية الله عز وجل، واعترافهما بأنهما ظلَما أنفسهما بالأكل من الشجرة التي نهاهما الله عن الأكل منها، وتضرعهما إلى الله عز وجل بأن يغفر لهما ويرحمهما، وإعلانهما تحقُّق وتأكد كونهما من الخاسرين إن لم يغفر الله لهما ويَرحَمْهما.
وهذه الكلمات من جوامع الدعاء، ومن أعظم أسباب قَبول التوبة؛ لما فيها من التوسل بربوبيته عز وجل، والاعتراف بالذنب وظلم النفس، والتضرع إلى الله بطلب المغفرة والرحمة، وإيقان الخسران والهلَكة إن لم يعفُ الله عز وجل عن العبد ويغفر له ويرحمه.
﴿ فَتَابَ عَلَيْهِ ﴾؛ أي: فتاب ربُّه عليه، بأن وفَّقه للتوبة بهذه الكلمات، ثم قَبِلَ توبته فعفا وتجاوز عنه، كما قال تعالى: ﴿ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ﴾ [طه: 122].
كما تاب على زوجه حواء، ولم تُذكَر هنا - والله أعلم - لظهور أنها تبعٌ له في سائر أحواله؛ بدليل قوله: ﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا ﴾ [الأعراف: 23].
وصار حال آدم وحواء بعد توبة الله عز وجل عليهما أفضَلَ من حالهما قبل المعصية، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وقد قال الله عز وجل: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70].
فجمع الله عز وجل لمن تاب وآمن وعَمِل عملًا صالحًا بين ما له من حسنات هذه الأعمال وغيرها وبين الحسنات التي أُعطيتْ له بدل السيئات، وبهذا صار حاله بعد التوبة الصادقة النصوح أفضَلَ من حاله قبل المعصية.
﴿ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ هذه الجملة تعليل لقوله تعالى: ﴿ فَتَابَ عَلَيْهِ ﴾؛ أي: فتاب عز وجل على آدم؛ لأنه سبحانه هو التواب الرحيم.
وضمير الفصل "هو" للتوكيد والحصر؛ أي: هو التواب الرحيم وحده لا غيره.
و"التواب" اسم من أسماء الله عز وجل مشتق من التوبة، يدل على أنه عز وجل ذو التوبة الواسعة.
و"التواب" على وزن "فعَّال" صفة مشبَّهة أو صيغة مبالغة، يدل على كثرة توبته عز وجل على العبد، وكثرة من يتوب عليهم من عباده.
وتوبة الله على العبد الرجوعُ به من المعصية والمخالفة إلى الطاعة والموافقة، وهي تنقسم إلى قسمين: توفيقه العبدَ للتوبة، كما قال تعالى في قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا: ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ﴾ [التوبة: 118]؛ أي: وفَّقهم للتوبة ليتوبوا.
والقسم الثاني: قبول توبة عبده، كما قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ﴾ [الشورى: 25]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ﴾ [طه: 82]، وقال تعالى: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ﴾ [التوبة: 104].
و"الرحيم" اسم من أسماء الله عز وجل مشتق من الرحمة، على وزن "فعيل" صفة مشبهة أو صيغة مبالغة، يدل على إثبات صفة الرحمة الواسعة لله عز وجل: رحمة هي صفة ذاتية ثابتة لله عز وجل، كما قال تعالى: ﴿ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ﴾ [الكهف: 58].
ورحمة فعلية يوصِّلها من شاء مِن خلقه، كما قال تعالى: ﴿ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [العنكبوت: 21].
رحمة عامة لجميع الخلق؛ مؤمنهم وكافرهم، ناطقهم وبهيمهم، في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 143، الحج: 65].
ورحمة خاصة بالمؤمنين، كما قال تعالى: ﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 43].
فرحمته عز وجل للكافرين وغيرهم من البهائم في الدنيا ما يتمتعون به من نِعَمِ الله عز وجل التي لا تحصى، ورحمتُه لهم في الآخرة: العدلُ في حسابهم حتى إنه ليقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء، كما جاء في الحديث[1].
ورحمتُه عز وجل للمؤمنين في الدنيا: هدايتهم وتوفيقهم للطريق المستقيم، إضافة إلى ما يتمتعون به من النعم مما هو دون ذلك، ورحمتُه لهم في الآخرة: هدايتُهم إلى طريق الجنة، وإدخالهم جناتِ النعيم.
[1] أخرجه مسلم في البر والصلة (2582)، والترمذي في صفة القيامة (2420) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الألوكة
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك