قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾ الآية:
ضرب الله عز وجل في الآيات السابقة مثَلينِ للمنافقين فيما هم عليه من قبيح الصفات وسوء الأحوال، ثم بيَّن أنه عز وجل لا يمنعه الحياءُ من ضرب الأمثال مهما كان الشيء المضروب به المَثَلُ حقيرًا أو صغيرًا؛ لما في ضرب الأمثال من تقريب المعاني والأمور المعقولة، وبيانِ وإيضاح الحق، والموعظة، كما قال تعالى: ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 43].
أي: إن الله لا يمنعه الحياء أن يضرب مثلًا، أيَّ مثل كان، صغيرًا أو حقيرًا، أو غير ذلك؛ لأن الله عز وجل لا يستحيي من الحقِّ[1].
والمثل: الشَّبه؛ يقال: هذا مِثْلُ الشيء ومَثَلُه، كما يقال: شِبْهُه وشَبَهُه، ومنه قول كعب بن زهير:
كانت مواعيدُ عرقوبٍ لها مَثَلًا *** وما مواعيدُها إلا الأباطيلُ[2]
أي: كانت مواعيد عرقوب لها شَبَهًا.
ومعنى ﴿ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا ﴾؛ أي: أن يشبه شيئًا بشيء لبيان الحق وإيضاحه وللتذكير.
فضربُ المثل تشبيهُ أمر معنوي معقول بشيء محسوس؛ لتقريبه وبيانه.
وذلك لما في الأمثال من الحكمة والموعظة، وتحقيق الحق وبيانه، وإبطال الباطل وإزهاقه، وكأن في هذا جوابًا لمن أنكر ضرب الأمثال في الأشياء الحقيرة، كالذباب والعنكبوت وغير ذلك، واعترض على الله في ذلك.
﴿ بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾"بعوضة" عطف بيان لـ"ما" أو بدل.
و"البعوضة" حشرة صغيرة مهينة، يُضرَب بها المثل في الحقارة والصغر.
والمعنى: لو كان المثل حقيرًا كالبعوضة.
﴿ فَمَا فَوْقَهَا ﴾: الفاء عاطفة، و"ما" موصولة بمعنى "الذي"؛ أي: فالذي فوق البعوضة، أي: أكبر منها كالذباب والعنكبوت، وكمستوقد النار، والصيِّب من السماء، وغير ذلك، كما قال تعالى: ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾ [البقرة: 17]، إلى قوله: ﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ﴾ [البقرة: 19] الآيتين.
أي: فيعلمون أن المثل الذي ضربه الله هو الحقُّ الثابت من ربِّهم الموافق للواقع، فيتفكرون فيه، ويعرفون موافقة المثل لما ضُرِب له، ويؤمنون بأنه حق، حتى لو خفي عليهم وجهُ الحكمة فيه؛ ليقينهم بأن الله لم يضربه عبثًا، ويزدادون إيمانًا وهداية؛ بسبب إيمانهم وتوفيق ربهم، وربوبيته الخاصة لهم.
﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا ﴾:الواو: عاطفة.
و"ماذا": "ما" اسم استفهام مبتدأ، و"ذا" اسم موصول بمعنى "الذي" خبر المبتدأ.
قال ابن مالك:
ومثل "ما" ذا بعد ما استفهامِ = أو مَن إذا لم تُلْغَ في الكلامِ[3]
﴿ بِهَذَا مَثَلًا ﴾:أشاروا إليه بإشارة القريب "هذا" للتحقير، و"مثلًا" تمييز.
والمعنى: وأما الذين كفروا فيقولون - إنكارًا واعتراضًا منهم على الله وعنادًا، وحيرة منهم بسبب كفرهم -: ما الذي أراد الله بهذا المثل مثلًا، فيزدادون كفرًا إلى كفرهم.
﴿ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ﴾: هذا استئناف فيه بيان الحكمة من ضرب المثل بالشيء الحقير.
والباء في قوله: ﴿ بِهِ ﴾ في الموضعين للسببية، والضمير في الموضعين يعود إلى "المثل"؛ أي: يُضِلُّ بسبب هذا المثَلِ كثيرًا من الناس - بعدله - وهم الكفار؛ لتكذيبهم به واعتراضهم عليه، فيزدادون ضلالًا إلى ضلالهم.
ويهدي الله بسبب هذا المثَلِ كثيرًا من الناس - بفضله - وهم المؤمنون؛ بعلمهم أنه الحق من ربهم، وإيمانهم به، فيزدادون به هدى وإيمانًا
.
كما قال تعالى في سورة المدثر: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [المدثر: 31].
فهذه حال المؤمنين والكافرين عند نزول الآيات القرآنية، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 124، 125].
﴿ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ﴾:
لما ذكر عز وجل أنه يُضِلُّ بالمثل كثيرًا، أَتْبع ذلك بما يدل على عدله في ذلك، وأنه لا يُضِل به إلا الفاسقين - بعدله - بسبب فسقهم، كما هدى إليه المؤمنين بفضله بسبب إيمانهم.
قوله: ﴿ وَمَا يُضِلُّ بِهِ ﴾ "ما" نافية، والباء للسببية، والضمير يعود إلى المثَل. ﴿ وَمَا يُضِلُّ بِهِ ﴾ "إلا" أداة حصر؛ أي: وما يضل بسبب هذا المثل إلا الفاسقين.
و"الفاسقين" جمع "فاسق"، و"الفاسق" في الأصل الخارج عن الطاعة والصلاح إلى الفساد؛ ولهذا يقال للفأرة: فويسقة؛ لخروجها عن جحرها للفساد، ومنه سميت الفواسق، قال صلى الله عليه وسلم: ((خمسٌ فواسقُ يُقتَلن في الحِلِّ والحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور))[4].
والمراد بـ"الفاسقين": الخارجون عن طاعة الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ﴾ [الكهف: 50].
ويطلَق الفسق على المُخرِج من الدين - كما في هذه الآية - ويطلَق على ما دونه من المعاصي، كما في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ﴾ [الحجرات: 6]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((سِبابُ المسلم فسوق، وقتالُه كفر))[5].
والمعنى: وما يُضِل بهذا المثَلِ إلا الخارجين عن طاعة الله تعالى من الكفار؛ بسبب فسقهم، كما قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الصف: 5].
[1] كما جاء في حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: جاءت أم سُلَيم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة من غُسلٍ إذا احتلمت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأت الماء)).
أخرجه البخاري في العلم (130)، ومسلم في الحيض (313)، والنسائي (197)، والترمذي في الطهارة (122).
[2] انظر "ديوانه" ص (8)، "جامع البيان" (1/ 428).
[3] انظر: "الألفية" ص15.
[4] أخرجه البخاري في الحج (1828)، ومسلم في الحج (1199)، وأبو داود في المناسك (1846)، والنسائي في مناسك الحج (2828)، وابن ماجه في المناسك (3088) - من حديث عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما.
[5] سبق تخريجه.
الألوكة
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك