الغيث المبارك الذي ينزله الله تعالى من السماء رزقا للعباد، وحياة للأرض وما عليها ما هو إلا آية من آيات الله تعالى الدالة على ربوبيته وألوهيته، ومظهر من مظاهر رحمته بعباده.
وقد جاء في القرآن تأكيد هذا المعنى العظيم بأساليب متنوعة في أكثر من ثلاثين موضعا، مما يدل على عظيم هذه الآية الربانية الكونية، ولزوم التفكر فيها، والاعتبار بها.
إن في آيات القرآن الكريم تصريح بأن هذه العملية الكونية من إنشاء السحاب، وهطول الأمطار، وإنبات الأرض آية من آيات الله تعالى، قال الله عز وجل {وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[12] وفي آية أخرى {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ}[13] وفي آية ثالثة {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ}[14].
وأحيانا يخاطب الله تعالى الرسول – صلى الله عليه وسلم - بالنظر في هذه الآية الكونية العظيمة؛ لتثبيت قلبه، وتقوية عزمه أمام تكذيب المكذبين، وإنكار المنكرين {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}[15] وتكرر هذا المعنى في سورتي فاطرٍ والزمر.
وفي آيات أخرى يعيب الله تعالى على المكذبين تعطيل عقولهم وأسماعهم وأبصارهم عن رؤية هذه الآية العظيمة كما في قوله عز وجل {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ المَاءَ إِلَى الأَرْضِ الجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ}[16]، وتكرر هذا المعنى في سورة ق.
وفي آيات قرآنية أخرى تذييل بذكر وسائل تحصيل العلوم والمعارف وهي الأسماع والأبصار والعقول عند ذكر آية نزول الغيث، وإحياء الأرض به؛ مما يدل على أنها آية محسوسة تدركها الأسماع والأبصار والعقول، قال الله تعالى: {وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}[17] وفي البقرة {لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[18] وفي النحل {لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[19] وفي طه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى}[20] وفي الزمر {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الأَلْبَابِ}[21] وفي السجدة {أَفَلَا يُبْصِرُونَ}[22] وكل هذه الآيات القرآنية المختومة بالتفكر والعقل والسمع والبصر جاء فيها آية إنزال الماء من السماء لإحياء الأرض، وإنبات الزرع.
بل جاء ذلك صريحا في قول الله تعالى{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ][23].
وفي آيات أخرى يعيب الله تعالى على من أشركوا به عز وجل مع إقرارهم بأن الغيث لا ينزله إلا الله تعالى، وأن الأرض لا ينبتها إلا هو سبحانه، ويبين تناقضهم، وتهافت حجتهم، وضعف عقولهم {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الحَمْدُ لله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}[24] وفي النمل {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ الله بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}[25]. وتكرر هذا المعنى في الزخرف.
وفي آيات أُخَرْ يبين سبحانه لعباده ضعفهم وعجزهم وقلة حيلتهم أمام حاجتهم للغيث، فهو سبحانه الذي يملكه، وهو الذي ينزله، وهو الذي يمسكه لهم في الأرض ولو شاء سبحانه لذهب به، وهو الذي جعله عذبا فراتا، ولو شاء لجعله ملحا أجاجا {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ}[26] وفي آية أخرى {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ}[27] وفي ثالثة {أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ}[28] وفي رابعة {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ}[29]
ومن كذَّب بالله تعالى مع مشاهدته لآية الغيث فويل له {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا* وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}[30].
وبهذه الآية البينة -آية إنزال الغيث، وإحياء الأرض به-حاجج موسى عليه السلام فرعونَ في مناظرته له في الخالق سبحانه فقال موسى عليه السلام يصف ربه تعالى {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى}[31].
فيا لها من حجة بالغة، وآىة باهرة، تدل على ربوبية الله تعالى وألوهيته وقدرته وعظمته، وافتقار الخلق إليه في كل شئونهم، فمن ذا الذي يغيثهم ويرزقهم، ويكشف ضراءهم إلا ربهم!!