يقول الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]، إذًا الدنيا هي البلاء، والإنسان فيها دائم التعب والكد، فأين السعادة فيها؟! لقد خلق الله تعالى الإنسان ليتوافق مع شرعه ومنهاجه، ووجهه إلى الإيمان والعمل الصالح، وربطه بمحبته وطاعته، وبعقابه وغضبه، رغم أن ذلك لا يزيد في ملكه ولا ينقص، فما الحكمة من ذلك؟!
عرض الله تعالى أمانة التكليف على المخلوقات فأبت جميعا حملها، إلا الإنسان الذي قبلها وتحمل تبعاتها، فأشفق الله عليه منها، ووجهه إلى ما يعينه على أدائها فشرع له، ووضع له المبادئ التي تحدد علاقته ببني جنسه وبربه وبالكون من حوله، بما يهدف إلى أدائه لأمانة التكليف ونجاحه في دار البلاء.
وقد وعد من يستقيم على منهاجه ويتمسك بشرعه بجنة في الدنيا قبل تلك التي في الأخرة، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:67]، وأكد ذلك الوعد بالفاء ولام القسم ونون التوكيد، وبالتوكيد اللفظي في قوله: {حَيَاةً}، وعبر بالنكرة دون المعرفة في قوله: {حَيَاةً طَيِّبَةً}؛ لتفيد العموم والشمول، فهي طيبة بمقياس الله تعالى، لا يتخيلها بشر، طيبة في جميع جوانب الحياة المادية، والصحية، والأسرية، والاجتماعية، والنفسية..
وقال صلى الله عليه وسلم: «الدنيا حلوة خضرة فمن أخذها بحقها بارك الله له فيها ورب متخوض في مال الله ورسوله له النار يوم القيامة» (صحيح الترغيب:3218)، فهؤلاء الذين يعملون الصالحات مستقيمين على كتاب الله وسنة نبيه تبالغ الملائكة في النزول عليهم تباعاً؛ تشد من أزرهم وتحول بينهم وبين الشياطين، والنفس الأمارة تزيل عن كاهلهم الخوف من المستقبل والندم على الماضي، يوحون إليهم بأنهم نصراؤهم في الدنيا بالتأييد، وفي الآخرة بالشفاعة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ . نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت:30-31].
الإيمان هو الذي يجعل المكابدة والعناء لذة يستعذبها المؤمن، من خلال الصبر والاحتساب عند الله، فهؤلاء ينزل الله عليهم الرحمات والصلوات، ويزيدهم هدى وثبات، قال تعالى: {..وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155-157].
الإيمان والعمل الصالح هما اللذان يقضيان على القلق والصراع النفسي والتوتر العصبي، فالمؤمن لا يستسلم لنزواته ورغباته، بل يوقن بأنها مجرد لذة فانية، لا ينبغي الاستسلام لها، لذلك تجد المؤمن في أقصى درجات الاتزان النفسي والإشباع العاطفي، لا تجده مهمومًا مغمومًا على فوات حظ من حظوظ الدنيا القليلة السريعة الزوال.
تحدث عن ذلك العلماء والصالحين الذين امتثلوا له فقالوا:
قال إبراهيم بن أدهم: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف".
قال ابن تيمية: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة"، وقال: "ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري؛ إن رحت فهي معي لا تفارقني، إنَّ حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة!".
قال أحد السلف: "مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل وما أطيب ما فيها؟ قال محبه الله تعالى ومعرفته وذكره والأنس به؟
وقال آخر: "أنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طربًا، حتى أقول إن كان أهل الجنه في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب".
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك