شرح كلمة "كِفَات" في ضوء كلام العرب والقرآن الكريم
د. أورنك زيب الأعظمي[1]
القرآن
الكريم كتاب سماوي، نزل بلسان عربي مبين، وتحدى كل من خالفه أو شكَّ في كونه مُنزَّلًا من الله تعالى أن يُقدِّموا ما يعادله علمًا ولغةً ونَظْمًا، فعجزوا عنه، ولن يتمكن مخلوقٌ أن يأتيَ بما يحاكيه في ميزاته العلمية والأدبية.
ولأنه نزل بلسان عربي مبين، فقد أوجب العلماء والمفسرون أن يراجع مَن يريد فَهم
كلمة من كلماته كلامَ
العرب في العصرين الجاهلي والإسلامي، ومنعوا من لا يمهر فيه أن يقوم بشرح أو تفسير
كلمة من كلماته؛ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أيها الناس، تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم؛ فإن فيه تفسير كتابكم"
[2].
ويقول مجاهد: "لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالمًا بلغات العرب"
[3].
وقال المعلم عبدالحميد الفراهي صاحب (مفردات القرآن):
"فأما في سائر الألفاظ وأساليب حقيقتها ومجازها، فالمأخذ فيه
كلام العرب القديم
والقرآن نفسه، وأما كتب اللغة، فمقصِّرة؛ فإنها كثيرًا ما لا تأتي بحدٍّ تام، ولا تُميِّز بين العربي القُحِّ والمُوَلَّدِ، ولا تهديك إلى جرثومة المعنى، فلا يُدرَى ما الأصل وما الفرع، وما الحقيقة وما المجاز، فمن لم يمارس
كلام العرب، واقتصر على كتب اللغة، ربما لم يهتدِ لفَهم بعض المعاني من كتاب الله، ومن
كلام العرب القديم الذي وصل إلينا ما هو منحول وما هو شاذ، ولكن لا يصعب التمييز بين المنحول والصحيح على الماهر الناقد، فينبغي لنا ألَّا نأخذ معنى القرآن إلا مما ثبت، وكذلك يجب أن نترك المعنى الشاذ من اللغة"
[4].
وفيما يلي محاولةٌ متواضعة لفهم
كلمة من كلمات القرآن وحدودها في ضوء
كلام العرب والقرآن الكريم؛ قال الله تعالى:
﴿
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا * وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا ﴾ [المرسلات: 20 - 27].
قال امرؤ القيس:
تلك المنايا فما يُبقِينَ من أحدٍ *** يَكْفِتْنَ حمقى وما يُبقِينَ أكياسا[5]
وقال مالك بن عويمر المستغل:
ذلك بَزِّي وسَلِيهم إذا
ما كَفتَ الحَيْشُ
[6] عَنِ الأرجلِ
هل أُلحِقُ الطعنة بالضربة الـ
ـخدباء بالمُطَّرِدِ المِقصَلِ
[7]
وقال زهير بن أبي سُلمى يصف فرسه:
وصاحبي وردةٌ نهدٌ مراكلها
جرداءُ لا فَحَجٌ فيها ولا صَكَكُ
مَرًّا كِفاتًا إذا ما الماءُ أسهلها
حتى إذا ضُربت بالسوط تَبْتَرِكُ
[8]
والصاحب هنا فرسه، وعندما تعدو الفرس تجذب قدميها إليها.
وقال عربيٌّ حينما سُئل عن أحب الخيل إليه:
"الجواد الأنيق، الحصان العتيق، الكَفِيتُ العريق، الشديد الوثيق، الذي يفوت إذا هرب، ويلحق إذا طلب"
[9].
فالكفيت هنا السريع؛ لأن الفرس عندما تُسرِع تجذب رجليها إليها.
ومنه: كَفَتَ يكفِتُ؛ فقال زهير بن أبي سلمى:
ومُفاضةٍ كالنَّهيِ تنسُجُهُ الصَّبا *** بيضاءَ كفَّت فضلها بمهنَّدِ[10]
وقال أبو ذويب الهذلي:
أتَوها بريحٍ حاولته فأصبحت *** تُكَفَّتُ قد حلَّت وساغ شرابها[11]
"تكفت"؛ أي: تقبض.
وقال مالك بن خالد الخناعي:
كفت ثوبي لا ألوي على أحدٍ *** إني شنئت الفتى كالبكر يحتطم[12]
وقال أعشى أبي ربيعة:
هبُّوا وكانوا رقودًا في مضاجعهم
ينشق عنهم جديدُ الأرض والعفرُ
كانت كِفاتًا لهم والله أخرجهم
من مظلماتِ قعورٍ كلها غبرُ
[13]
أي: الأرض كانت جامعة لهؤلاء الأموات.
جاء في الحديث: ((واكفِتوا صبيانكم عند المساء، فإن للجنِّ انتشارًا وخَطْفة))
[14].
وقد شرحها أبو عبيدة أنها تعني: "واعية"، ولكنها جانب واحد من الكلمة
[15].
ومنه الانكفات؛ فأنشد سيبويه:
كرامٌ حين تنكفت الأفاعي *** إلى أحجارهن من الصقيعِ[16]
وقال إبراهيم بن هرمة القرشي:
عهدي بهم وسراب البيض منصدع
عنهم وقد نزلوا ذا لجة صخبا
مشمِّرًا بارز الساقين منكفتًا
كأنه خاف من أعدائه طلبا
[17]
فبدا من هذا التتبع لكلام العرب أن الكِفات يعني: الضم والجمع؛ فقال المعلم الفراهي:
"من كفته: ضمه وجمعه، ومنه كفته عن وجهه: صرفه، ومنه الكفت بالكسر: للقدر الصغيرة، والفعال بمعنى: ما يُفعل به كالزمام؛ ولذلك صار في قوة الفاعل، فصح وقوع المفعول بعده"
[18].
ونفس المعنى جاء في سورة هود؛ حيث قال تعالى:
﴿
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [هود: 6].
فـ﴿
مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ﴾ هما الجانبان اللغويان لهذه الكلمة؛ فكما أن الأرض تربي الناس كأمٍّ حنون، فكذلك هي تجمعهم بعد موتهم كصندوق أمين، وسترجع هذه الأمانة حين تأتي القيامة.
المصادر والمراجع:
1) البرهان في علوم القرآن؛ للزركشي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الحلبي، 1376هـ.
2) جمهرة خطب
العرب في عصور العربية الزاهرة؛ لأحمد زكي صفوت، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، ط: 1، 1933م.
3) ديوان الهذليين، الجمهورية العربية المتحدة، الثقافة والإرشاد القومي، طبعة دار الكتب، 1996م.
4) ديوان امرئ القيس، ضبطه وصححه: الأستاذ مصطفى عبدالشافي، دار الكتب العلمية، بيروت، 2004م.
5) ديوان زهير بن أبي سلمى، شرح وتقديم: الأستاذ علي حسن فاعور، دار الكتب العلمية، بيروت، ط: 1، 1988م.
6) شعر إبراهيم بن هرمة القرشي، تحقيق: محمد نفاع وحسين عطوان، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، 1869م.
7) الصبح المنير في شعر أبي بصير، مطبعة آدلف هلزهوسنين، بيانة، 1927م.
8) مفردات القرآن؛ للمعلم عبدالحميد الفراهي، تحقيق: الدكتور محمد أجمل أيوب الإصلاحي، الدائرة الحميدية، مدرسة الإصلاح، سرائ مير، أعظم كره، ط: 3، 2012م.
[1] مدير تحرير، مجلة الهند، وأستاذ مساعد، قسم اللغة العربية وآدابها، الجامعة الملية الإسلامية، نيودلهي.
[2] قال المناوي في "الفتح السماوي" (2/755 رقم 642): «لم أقف عليه».
[3]-البرهان في علوم القرآن، (1/ 294).
[4] فاتحة نظام القرآن، ص: 12، 13.
[5] ديوانه، ص: 84.
[6] وكفت هنا: شمَّر، والحيش: الفزع؛ أي: يضمُّون إزارهم ويرفعونه إليهم؛ لأجل الخوف من الموت.
[7] ديوان الهذليين، (2/ 13).
[8] ديوانه، ص: 79، 80.
[9] جمهرة خطب العرب، (1/40).
[10] ديوانه، (28).
[11] ديوان الهذليين، (1/ 74).
[12] ديوان الهذليين، (3/ 13).
[13] الصبح المنير في شعر أبي بصير، ص: 278.
[14] "صحيح البخاري" كتاب: بدأ الخلق، باب: خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحل والحرم، الحديث 3316، وانظر: "فتح الباري" (6/ 355).
[15] "غريب الحديث" للحربي، (1/ 217).
[16] "الكتاب" (3/ 577)، (تحقيق هارون).
[17] شعره، ص: 65.
[18] "مفردات القرآن"، ص: 95.
الألوكة