الحمد لله الذي جعل لنا من أيام دهرنا نفحات، وأرشدنا إلى فعل الطاعات، وأمرنا بالاستباق لفعل الخيرات (وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ)، والصلاة والسلام على خير من صلى وصام وجاهد وقام، وبعد…
ها هي الأيام يطوي بعضها بعضًا، وما أعمارنا إلا جماع هذه الأيام، فأعمارنا سنوات فيها شهورٌ فأيامٌ فساعاتٌ فدقائقُ فلحظات، وكلما انطوت لحظة أو دقيقة انطوى جزءٌ من أعمارنا بانطوائها، وسيأتي الموت بغتة ونحن لا ندري (ألهاكم التكاثر، حتى زرتم المقابر).
اقترب شهر
رمضان على الإنتهاء، حيث النفوس مشحونة بالإيمان، وقد بلغت ذروة الإيمان آخر الشهر، حيث العشر الأواخر وما فيها من رحمات تجمعها ليلة القدر، فاجتهد الجميع (كلٌ حسب همته بعد توفيق الله)، ثم يأتي العيد حيث التكبير (ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم)، فلهجت الألسن بهذا التكبير له –سبحانه- حمدًا وثناءً على هذه الطاعات،
ولكن ماذا بقي؟ بقي الشكر العملي لله –تعالى- (ولعلكم تشكرون)!
لقد نطقت ألسنتنا بالتكبير والتحميد والدعاء لله – وهذا فضل منه ومنة- وبقي أن نُترجمَ التكبير بعزةٍ في أنفسنا نُقدم الله- جل جلاله-على كل شيء، ونترجمَ الحمدَ بالرضا بكل ما قدره لنا وعلينا دون تذمر ولا تراجع، ونوقن باستجابته دعاءنا تلبية لهذا الدعاء عاجلاً أم آجلًا، وكل هذا لا يتحقق إلا بأمرين متوازيين،
أما الأول: بالاستمرار على الطاعة، حيث قراءة القرآن وصيام النوافل وقيام الليل والصدقة وصلة الأرحام والاستغفار وشغل النفس بذكر الله-تبارك وتعالى-،
وأما الثاني: الاستمرار بالدعوة إلى الله وحث الناس على الخير وتحذيرهم من الوقوع في الشر ونشر المفهوم الشامل للإسلام بين الناس بمفهومه الصحيح الذي جاء به النبي (عليه الصلاة والسلام).
إن شكر النعم يحفظ دوامها بل يزيدها ويمنع زوالها (وإذ تأذن ربكم لإن شكرتم لأزيدنكم)، والشكر صفة العبد الوفي لسيده بخلاف العبد الآبق، وقدوتنا في ذلك الداعية الأول (عليه الصلاة والسلام) عندما قال لسيدتنا عائشة وهي تستغرب من كثرة قيامه في الليل حتى تفطرت قدماه وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال : (أفلا أكون عبداً شكورا)!…
إنه خُلق الأحرار والعظماء حيث الوفاء سمتهم والاعتراف بفضل الغير عليهم طبعهم، فهل نحن من هؤلاء أو ننتسب إليهم! ألَم نلتفت لقول الله تعالى (ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكورا)… لقد أكرم الله البشرية بالبقاء؛ بل أكرم الكون كله إكرامًا لنوح (عليه السلام) لأنه كان عبدًا شكورا!
الاستباق
للخيرات حصن المسلم
إن المسلم الشاكر له في كل لحظة من حياته زاد للآخرة، فلا يترك نفحة إلا وتعرض لها طمعًا في تثبيت الله له على الطريق، فهو لا يدري ماذا تحمل الأيام له، وقد أرشدنا النبي وحذرنا فقال:
(بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ –أي تسابقوا وتنافسوا وبادروا إليها وتعجلوا فعلها- فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا- رواه مسلم)،
فهذه الأعمال الصالحة حصن للمؤمن من الفتن، يقول النووي –رحمه الله- إن الحديث يرشد إلى (الْحَثّ عَلَى الْمُبَادَرَة إِلَى الْأَعْمَال الصَّالِحَة قَبْل تَعَذُّرهَا وَالِاشْتِغَال عَنْهَا بِمَا يَحْدُث مِنْ الْفِتَن الشَّاغِلَة الْمُتَكَاثِرَة الْمُتَرَاكِمَة كَتَرَاكُمِ ظَلَام اللَّيْل الْمُظْلِم لَا الْمُقْمِر.
وَوَصَفَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَوْعًا مِنْ شَدَائِد تِلْك الْفِتَن , وَهُوَ أَنَّهُ يُمْسِي مُؤْمِنًا ثُمَّ يُصْبِح كَافِرًا أَوْ عَكْسه.)
ولقد وجهنا القرآن من قبل، فقال الله تعالى : ( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ-148/البقرة)،
ووصف – عز وجل – المؤمنين المتقين بأنهم هم الذين يسارعون في الخيرات ويتسابقون إلى فعلها , قال تعالى :
( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ-60-61/المؤمنون).
ثم وضح – سبحانه – طريق النجاة في الآخرة باستباق الخيرات، قال تعالى : ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ-48/ المائدة).
لقد وضح الله لنا أن
الإستباق للخيرات طريق إمامة البشرية وقيادتها
﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ-32/فاطر﴾،
وعليه فالمسلم الحقيقي – الذي هدفه هداية وقيادة العالم- ليس له موقع إلا في المقدمة، ليست مقدمة الكِبر والاستعلاء؛ بل المقدمة في الطاعة واغتنام الفرص ومواسم الطاعات ليقتدي الناس به، فأنت إمام في الطاعة، إمام في التبكير للفرائض في المساجد، إمام في التصدق والتضحية والفداء، إمامٌ في البذل والعطاء، إمامٌ في جلب المحبين والأنصار، إمام في بيتك وعملك ومحيطك الذي تعيش…
فأنت إمام ...فكن دائماً في الأمام.