■ ضوابط أساسية لضبط النفس، ومن أهمّها:
1 - الاستعانة بعبادة الله تعالى:
التقرُّب إلى الله ـ عز وجل ـ بما يحب من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وخير ما تقرَّب به المتقرِّبون إلى الله الفرائض التي فرضها الله جل وعلا، وعلى رأسها توحيد الله، ثم إن في النوافل لمجالاً واسعاً عظيماً لمن أراد أن يرتقي إلى مراتب عالية عند الله، كما قال -صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه: «وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأُعيذنَّه» (2).
ومن فضل الله علينا أن جاء هذا الدين بعبادات شتَّى، تملأ حياة المسلم في كل الظروف والأحوال؛ بالليل والنهار، بالقلب والبدن التي يعتبر أداؤها من أهمِّ عوامل ضبط النفس، من قيام ليل وصيام تطوع وصدقة وقراءة قرآن، وذِكْرٍ لله آناء الليل وأطراف النهار. لا شكَّ أن هذه العبادات تقوِّي الصلة بين العبد وربه، وتوثِّق عُرى الإيمان في القلب؛ فتضبط النفس وتزكو بها، وتأخذ من كل نوع من العبادات المتعددة بنصيب؛ فلا تَكِلُّ ولا تَسْأَمُ، لكن الانتباه لأمور تَرِدُ أمرٌ أساسي، ومنها:
| الحذر من تحوُّل العبادة إلى عادة.
| الحذر من تقديم المهمِّ على الأهمِّ، أو الأدنى على الأعلى - أي النوافل على الفرائض - كمن يقوم الليل - مثلاً - ثم ينام عن صلاة الفجر.
فالمسلم كالنَّحلة تجمع الرَّحيق من كل الزهور، ثم تُخرجه عسلاً مصفّىً شهياً سائغاً للآكلين.
| تقديم الواجب عند تعارضه مع المستحب.
| التركيز على أعمال القلوب، وتقديمها على أعمال الجوارح؛ لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب» (3).
إن استشعار المؤمن المكاره التي تحفُّ بالجنة، يتطلب منه هِمَّة عالية تتناسب مع ذلك المطلب العالي للتغلُّب عليها، مع تنقية تلك الهمم من كل شائبة تدفع لوجه غير وجه الله، وإنما تفاوت الناس بالهِمَم لا بالصور والله لا ينظر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.
ولنستمع إلى ثابت البناني الذي يقول: تعذَّبت بالصلاة عشرين سنة، ثم تنعمت بها عشرين سنة أخرى، والله إني لأدخل في الصلاة فأحمل همَّ خروجي منها(4).
وقد قيل للإمام أحمد: يا إمام! متى الراحة؟ فيقول وهو يدعو إلى المجاهدة: الراحة عند أول قدم تضعها في الجنة(5).
إنها الراحة الأبدية التي يُستعذَب كل صعب في سبيل الوصول إليها.
هذه هي الصلاة التي تعد رمز الضبط والانضبــاط، قـال ـ تعــالــى ـ: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: 45]. وقــولــه ـ تعالى ـ: {إنَّ الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإذَا مَسَّهُ الْـخَيْرُ مَنُوعاً * إلاَّ الْـمُصَلِّينَ} [المعارج: 19 - 22].
فالهلع والجزع والمنع نقائص وعيوب، وعلاجها يكون بالصلاة وعموم الطاعات والعبادات.
فهي قيام ومثول بين يدي الله سبحانه وتعالى، وحقُّها حضور القلب وخشوع الجوارح {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4 - 5]. لكن كم من مصلٍّ ليس له من صلاته إلا التعب والنصب! كم من مصلٍّ يصلي الصلاة ما يكتب له منها إلا النصف أو الثلث! وأن ليس للإنسان من صلاته إلا ما عقل منها. بل إنها لتدعو للإنسان أو عليه. ثم إن الصلاة مضبوطة بأزمنة وأمكنة، فالأزمنة منها ما هو اختياري، ومنها ما هو اضطراري، والأمكنة منها ما هو فاضل كالمسجد الحرام والمسجد الأقصى والمسجد النبوي، ومنها ما هو عادي كسائر المساجد، ومن الأمكنة ما تحرم فيه الصلاة أو تُكره كالمزبلة والمقبرة والمجزرة.
والصلاة مضبوطة بالإمام والمأموم؛ فالإمام يحسن أن يمتاز بصفات، كأن يكون أقرأَ القوم وغير مكروه لديهم، والمأموم له أن ينبِّه الإمام عند السهو أو الخطأ، لكن يخشى عليه إن هو رفع رأسه قبل الإمام أن يُجعل رأسه رأس حمار، فإنما جُعل الإمام ليؤتمَّ به.
والصلاة مضبوطة بالإحرام والتسليم، وبالركوع والسجود، وما يتخلل ذلك من تكبير وغيره، وهي إلى ذلك مضبوطة بالنواقض والجوابر... إلخ.
إنهـا الصـلاة التـي كانـت راحةً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم - ، كما أخبر الصـادق المصـدوق يومـاً فقـال لصاحبـه:«أَرِحْنـا بـهـا يا بلال!» (1)؛ عكس أبناء الأمة اليوم الذين يقولون «أرحنا منها». وإن لم تنطق بها شفاههم، فإن أفعالهم بها ناطقة، إنها مَفْزَعُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ، حيث كان «كلما حَزَبَهُ أمرٌ صلّى» (2)، وهي قُرَّة عينه -صلى الله عليه وسلم - كما قال: «حُبِّبَ إليَّ من دُنياكم الطِّيب والنساء، وجُعلت قُرَّة عيني في الصلاة» (3).
إنها المعين الحقيقي على تقوية الإيمان؛ فإقامة الصلاة بأداء أركانها وسننها وهيئاتها في أوقاتها يوصل الإنسان إلى تحقيق تلك الصلة المطلوبة بين العبد وربه، وحريٌّ بمن فعل ذلك أن يعينه الله، وحريٌّ به هو أن يكون لما سواها مقيماً، كما قال عمر في رسالة لعمَّاله: «إن أهمَّ أموركم عندي الصلاة، من حفظها أو حافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيَّعها فهو لما سواها أضيع» (4).
الفريضة المرافقة لوجود الإنسان المؤمن فوق هذه البسيطة، فريضة لا تسقط أبداً مع جميع الأعذار، سواء كان مرضاً أو خوفاً أو حرباً.
إقامة الصلاة كما أرادها الله أن تقام، لا كما أرادها الناس.
والعجيب في القرآن أنه عند حديثه عن فلاح المؤمنين ذكر من صفاتهم السِّت، الصلاةَ مرتين، حيث بدأ بها وختم بها، فكان البدء بالخشوع فيها والختم بالمحافظة عليها، فقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} [المؤمنون: 1 - 10].
إنها مضخَّة الإطفاء التي تطفئ النار المشتعلة الموقدة التي تلفح القلوب والعقول، وممحاة للذنوب، حيث يروي(5) لنا سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يوماً مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة فأخذ منها غصناً يابساً، فهزَّه حتى تَـحَاتَّ ورقُه، ثم قال: يا سلمان! ألا تسألني لِمَ أفعل هذا؟ قلت: ولِمَ تفعله؟ قال: إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلى الصلوات الخمس تحاتَّت خطاياه كما تحاتَّ هذا الورق، ثم تلا: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إنَّ الْـحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114].
- بل إنها كالماء الذي يطفئ النار وسوادها ويغسل أثرها من بين جوانح الإنسان، لهذا قال -صلى الله عليه وسلم - : «إن لله ملكاً ينادي عند كل صلاة يا بني آدم قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها فأطفئوها» (6).
وهو ما شرحه ابن مسعود: «تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا تكتب عليكم حتى تستيقظوا»(7).
هذا بعض من كل، وغيض من فيض من عظمة الصلاة ودورها في ضبط وانضباط النفس، ولكل مؤمن أن يتساءل عن عدد المصلين وعدد مساجد المسلمين، وغياب الضبط المطلوب، فسيتعرف على السبب اليقين، ولن يلوم إلا نفسه، ولن يرجو إلا رب العالمين.
ومما يفيد النفس ويضبطها ويزكيها أمام باريها كثرة الذكر والاستغفار لقوله ـ تعالى ـ: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 110].
2 - الاستعانة بمحاسبة النفس:
قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].
إن آيات القرآن لتذكِّر الإنسان بيوم لا مردَّ له، فيه مساءلة الرحمن لبني الإنسان بكل ما سعت له وإليه من أعمال، كما قال ـ تعالى ـ: {إنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه: 15].
والإنسان محتاج للتذكر والتذكير بأن هذا اليوم هو يوم العدل المطلق، ليس فيه ظلم {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر: 17]. وليس فيه رخصة للرجوع والاعتذار أو المقايضة كما قال ـ تعالى ـ: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ} [يونس: 54].
بل سيجد الإنسان نفسه وبــيده كتابه يقرؤه بنفسـه، كمـا قــال ـ تعالى ـ: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً}[الإسراء: 14].
ومحاسبة النفس تكون قبل العمل، كما قال الحسن البصري: «رحم الله عبداً وقف عند همِّه؛ فإن كان لله أمضاه، وإن كان لغيره تأخَّر»(1).
وتكون أثناءه، باستحضار شرع الله ومراقبته في السر والعلن.
وتكون بعده، باستحضار قوله ـ تعالى ـ: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92] وقوله: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ}[الأحزاب: 8]. قال أحد السلف: «فإذا سأل الله الصادقين فما بالك بالكاذبين؟».
3 - تنمية الصفات الطيبة:
وذلك حتى يكون لها الغلبة؛ ذلك مثل: صفات الحلم والكرم والتواضع والشكر، ولا يكفي في ذلك قراءة كتاب أو حفظ نصوص، لكن تحصيلها لا بدَّ له من مجاهدة وتمرُّن وتدريب؛ فمثلاً من أراد أن يكون حليماً؛ فهذا ينبغي له أن يقوِّي إيمانه ويزيد في صبره ويكظم غيظه ويملك نفسه في مواقف الغضب، قال -صلى الله عليه وسلم - : «إنما الحلم بالتحلُّم»(2).
وقد أثنى الله ـ جلَّ وعلا ـ على الكاظمين الغيظ، فقال ـ جلَّ مِنْ قائلٍ ـ: {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْـمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133 - 134].
فالحديث عن المتقين هنا هو حديث عن صفة مهمة من صفاتهم، وهي كظم الغيظ، وهو أحد أهم الوسائل المعينة على ضبط النفس.
قال القرطبي في معناه: «كظم الغيظ ردُّه في الجوف» (3).
ويُقال: كظم غيظه أي سكت عليه ولم يظهره مع قدرته على إيقاعه بعدوه. فكظم الغيظ هو منعه من أن يقع(4).
ومن خلال ما ذكر نستطيع القول بأن ضبط النفس في مثل هذه الحالة، يكون بمنعها من التصرف خطأ في المواقف الطارئة والمفاجئة التي تتطلب قدراً من الشجاعة والحكمة وحسن التصرف. وقد وردت أحاديث كثيرة عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم - فيها بيان فضل كظم الغيظ ومن ثَم ضبط النفـس، منها: ما رواه ابن عمر ـ رضـي الله عنهمـا ـ قـال: قـال رسـول الله -صلى الله عليه وسلم - : «ما من جرعة أعظم عند الله من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاء وجه الله» (5).
وبإيجاز، فضبط النفس يقتضي من المسلم أن يتجاوز مرحلة البناء التي يجب ألَّا تتوقف، باعتبار استمرارها إلى آخر رَمَقٍ من عُمْر الإنسان، لقوله ـ تعالى ـ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]. ليصلَ بالنفس إلى مرحلة الإعراب.
فأن يصبح المرء معرَباً، هذا هو المطلوب، فهو كالكلمة، المعرب منها له في موقع الفاعل الرفع، وفي موقع المفعول به النصب، وأحياناً تجرّ إذا سبقت بحرف صغير من حروف الجر، أما المبني فقد تجاهله النحاة من قبلُ، ولم يعيروه من الاهتمام كما فعلوا مع المعــرَب، لأنه ثابــت لا يتغيــر، كما أنـه لا يتفاعل مع ما حوله من جمل وكلمات تفاعل المعرب.
فيجب على الإنسان أن يبادر (الفاعل) ليرفع سهمه عند الله، بحسن عمله في المجتمع بإبداعاته و إنجازاته؛ فالمؤمن كالغيث النافع أينما وقع نفع، وكل همِّه أن يسود الخير، وتنتشر المحبة، ويشارك في صناعة الحياة، همُّه أن يصبح راحلة يعين في رفع الأثقال عن أمته، وليس فقط واحداً يريد أن يحمل، وقد ورد في الحديث الصحيح: «الناس كإبـل المائــة لا تكاد تجد فيها راحلة»(6). فليحرص الإنسان على أن يكون راحلة ينفع نفسه وينفع أمته.