إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:
الله تعالى أوجب على المسلمين كافة التَّمسك بكتابه العظيم، والرجوع إليه عند الاختلاف وكذلك السُّنَّة، وأمرهم بالاجتماع على الاعتصام بالكتاب والسُّنّة، اعتقاداً وعملاً. وذلك سبب لاتفاق كلمتهم، وانتظام شتاتهم، الذي تتم به مصالح الدين والدنيا، والسلامة من الاختلاف. وأمَرَ بالاجتماع، ونهى عن الافتراق الذي حصل لأهل الكتابين، قال الله تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103].
فالاعتصام يوجب على المسلمين أن يجعلوا اجتماعهم ووحدتهم على كتاب الله تعالى، عليه يجتمعون، وبه يتَّحدون، لا بجنسيات يَتَّبعونها، ولا بمذاهب يبتدعونها، ولا بسياسات يخترعونها[1].
والقرآن العظيم هو حبل الله تعالى الموصل إلى هداه، كما جاء ذلك في حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه؛ أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «أَلاَ وإنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَين: أَحَدُهُما كتابُ الله عزّ وجل، هُوَ حَبْلُ الله[2]، مَنِ اتَّبَعَهُ كان على الهُدَى، ومَنْ تَرَكَهُ كَانَ عَلَى ضَلاَلَةٍ»[3].
وهو حبل الله الممدود من السَّماء إلى الأرض، كما جاء ذلك في حديث أبي سعيد رضي الله عنه؛ أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «كِتَابُ الله هو حَبْلُ الله المَمْدُودُ مِنَ السَّمَاءِ إلى الأرْضِ»[4].
والقرآن الكريم عليه اجتمعت الأمَّة، فتعلَّموا لغته، وأتقنوا تلاوته، فَضَلاً عن حفظه، وعرفوا أحكامه، فأضاف إلى الأُمَّة العربية المحدودة في زمانها أمماً وشعوباً، ووحَّد بينها فأصبحت عربية اللِّسان والطَّبْع والمِزاج؛ فوحَّد بينها القرآن؛ عقيدةً، وسلوكاً وأخلاقاً ولغةً.
القرآن منهج تربية للمسلمين:
إنَّ إعداد الأُمَّة فرداً وجماعةً، والعمل على نقلتها السَّريعة من وضع مُتَرَدٍّ إلى وضع أسمى وأفضل وأقوم، ليس بالأمر الهَيِّن اليسير، بسبب إصرار الناس على ما أَلِفُوه وورثوه، فيصبح جزءاً من حياتهم، فيحتاج الأمر إلى التَّدرج بهم من حال إلى حال؛ لتحسين أوضاعهم في جميع المجالات.
ولهذا جاء القرآن العظيم منهج تربية للمسلمين، فأيقظ فيهم عواملَ الخير، وبواعِثَ العقل، وحَوَّلَ طاقاتهم وبدَّل أحوالهم، ووجَّههم توجيهاً عالياً وقويماً، فانتقلت الأُمَّة من حال الضَّعف إلى حال القوة، ومن حال المرض إلى حال الصِّحة، ومن التَّخلف والتَّفرق والضَّياع إلى ذروة التَّقدم والوحدة والوئام والتَّعاون، حتى أصبحت خير أمة أخرجت للناس.
ولم يأت الأمر من فراغ بل كان القرآن العظيم يُوَجِّه أفراد المجتمع الإسلامي في جميع مجالات التربية: العقدية والعبادية والأخلاقية والثَّقافية والاقتصادية والسِّياسية.
ولا يوجد كتاب في التَّربية - قديماً كان أو حديثاً - يحوي الثَّروة التَّربوية العُظمى في الأهداف والمحتويات والأساليب، مقرونة بالتَّسامي والواقعية والشُّمول والاتِّزان كالقرآن العظيم[5].
فهو يحوي - بين دفَّتيه - جميع عناصر التربية الصالحة للمسلمين، وكل كلمة فيه تُعَدُّ توجيهاً تربوياً لإنشاء «المسلم الصالح» في هذه الأرض. سواء أكان أَمْراً بعبادة، أو توجيهاً أخلاقياً، أو نهياً عن أمرٍ لا يُحبه الله ولا يرضاه لعباده، أو تشريعاً مُنَظِّماً لحياة المسلمين، أو قصةً من قصص المؤمنين أو قصص المكذبين، أو حديثاً عن اليوم الآخر، ووصفاً لمشاهد الحساب والثواب والعقاب، أو توجيهاً عقلياً لتدبر آياته في الكون أو سننه في الحياة، فكل هذه الأمور جاءت للتربية والتوجيه.
[1] انظر: تفسير القرطبي (4/ 159)؛ تفسير المنار، محمد رشيد رضا (4/ 20)، مع كتاب الله (ص25).
[2] (حبل الله): قيل: المراد بحبل الله عهده. وقيل: السبب الموصل إلى رضاه ورحمته. وقيل: هو نوره الذي يهدي به.
[3] رواه مسلم، (4/ 1874)، (ح2408).
[4] رواه أحمد في «مسنده» (3/ 14)؛ وابن أبي شيبة في «مصنفه» (7/ 176)، (ح5). وصححه الألباني في «صحيح الجامع»: (2/ 826)، (ح4473)، و«الصحيحة» (ح2024).
[5] انظر: فلسفة التربية في القرآن الكريم، عمر أحمد عمر (ص7، 19).
الألوكة
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك