معنى قوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ... الآية ﴾: قال ابن كثير في "تفسيره" (2/57): ينكر تعالى على اليهود والنصارى في محاجتهم في إبراهيم الخليل، ودعوى كل طائفة منهم أنه كان منهم.
قال محمد بن إسحاق بن يسار: ـ وساق بسنده ـ عن ابن عباس قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود، عند رسول الله ق، فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديًا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيًّا، فأنزل الله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإنْجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾؛ أي: كيف تَدَّعُون أيها اليهود أنه كان يهوديًّا؛ اهـ.
متى وجدت اليهودية والنصرانية؟ ثم قال ابن كثير: وقد كان زمنه قبل أن ينزل الله التوراة على موسى، وكيف تَدَّعُون أيها النصارى أنه كان نصرانيًّا، وإنما حدثت النصرانية بعد زمنه بدهر، ولهذا قال: ﴿ أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾.
ثم قال: ﴿ هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَالله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُون ﴾، هذا إنكارٌ على مَن يحاج فيما لا علم له به، فإنَّ اليهود والنصارى تَحاجَّوا في إبراهيم بلا علم، ولو تحاجوا فيما بأيديهم منه علْم مما يتعلق بأديانهم التي شرعت لهم إلى حين بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، لكان أَولَى بهم، وإنما تكلموا فيما لم يعلموا به، فأنكر الله عليهم ذلك، وأمرهم بردِّ ما لا علم لهم به إلى عالم الغيب والشهادة الذي يعلم الأمور على حقائقها وجليَّاتها، ولهذا قال: ﴿ وَالله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾.
ثم قال تعالى: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا ﴾؛ أي: مُتَحَنِّفًا عن الشرك قَصْدًا إلى الإيمان ﴿ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [البقرة: 135].
وهذه الآية كالتي تقدمت في سورة البقرة: ﴿ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [البقرة: 135].
ثم قال تعالى: ﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 68]؛ يقول تعالى: أحق الناس بمتابعة إبراهيم الخليل الذين اتبعوه على دينه، وهذا النبي يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا من أصحابه المهاجرين والأنصار ومَنْ بعدهم.
قال سعيد بن منصور: أخبرنا أبو الأحوص، عن سعيد بن مسروق، عن أبي الضُّحَى، عن مسروق، عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن لكل نبي ولاة من النبيين وإن وليي منهم أبي وخليل ربي تعالى، ثم قرأ: ﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَالله وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
وقد رواه الترمذي والبزار من حديث أبي أحمد الزُّبيري، عن سفيان الثوري، عن أبيه، به، ثم قال البزار: ورواه غير أبي أحمد، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، عن عبد الله، ولم يذكر مسروقًا.
وكذا رواه الترمذي من طريق وَكِيع، عن سفيان، ثم قال: وهذا أصح، لكن رواه وكيع في "تفسيره"، فقال: حدثنا سفيان، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره.
وقوله: ﴿ وَالله وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ أي: ولي جميع المؤمنين برسله؛ اهـ.
الثانية: جرم الكذب على الأنبياء والرسل، ومن الكذب عليهم القول بأنهم يهود أو نصارى.
الثالثة: فضيلة عظيمة لإبراهيم عليه السلام؛ قال ابن كثير في "تفسيره" (6 /271): قد جعله الله للناس إمامًا، فإنه بذل نفسه للرحمن، وجسده للنيران، وسخا بولده للقُربان، وجعل ماله للضيفان، ولهذا اجتمع على محبته جميع أهل الأديان، والله أعلم.
[1] آل عمران [65ـ 67]، هكذا وجد في النسخة المعتمدة: تكرار الآية في الباب والمتن.
الألوكة
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك