اتباع الأحسن
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
قال الله تعالى: ﴿
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [الزمر: 55].
نتوقف عند هذه الآية من آيات القرآن الكريم المباركات عندما نقرؤها، رغبةً منا في معرفة تفسيرها ومعناها ومرادها، مع التسليم بأن كل ما في القرآن الكريم حسنٌ وجميل، فهو كلام ربِّ العالمين المعجز البليغ، الذي لا يأتيه الباطل أبدًا، فهو تنزيل من لدن حكيم خبير عليم، جلَّت قدرته، وتعالتْ أسماؤه وصفاته.
وقد آثرتُ أن أنقل كلام كبار العلماء المفسرين لبيان معنى ومفهوم وتفسير هذه الآية المباركة من كلام ربنا جلَّ وعلا.
قال الطبري في تفسيره لقوله تعالى: ﴿
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾؛ أي: واتبعوا أيها الناس ما أمرَكم به ربُّكم في تنزيله، واجتنبوا ما نهاكم فيه عنه، وذلك هو أحسن ما أُنزِل إلينا من ربِّنا.
فإن قال قائل: أوَمِن القرآن شيءٌ هو أحسن من شيء؟ قيل له: القرآن كله حسن، وليس معنى ذلك ما توهمتَ، وإنما معناه: واتبعوا مما أَنزل إليكم ربُّكم من الأمر والنهي والخبر، والمثل، والقصص، والجدل، والوعد، والوعيد أحسنه أن تأتمروا لأمره، وتنتهوا عما نهى عنه؛ لأن النهي مما أنزل في الكتاب، فلو عملوا بما نهوا عنه كانوا عاملين بأقبحه، فذلك وجهه.
وعن السدي: ﴿
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ يقول: ما أمرتم به في الكتاب ﴿
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ﴾ قوله: ﴿
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً ﴾، يقول: من قبل أن يأتيكم عذاب الله فجأةً ﴿
وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ﴾، يقول: وأنتم لا تعلمون به حتى يغشاكم فجأة.
وقال القرطبي عند تفسيره لقَوْله تَعَالَى: ﴿
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾: "أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ" هُوَ الْقُرْآنُ وَكُلُّهُ حَسَنٌ، وَالْمَعْنَى مَا قَالَ الْحَسَنُ: الْتَزِمُوا طَاعَتَهُ، وَاجْتَنِبُوا مَعْصِيَتَهُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْأَحْسَنُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يعنى المحكمات، وكلوا علم المتشابه إلى عالِمه، وقال: أنزل الله كتبًا التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ، ثُمَّ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ وَأَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ، فَهُوَ الْأَحْسَنُ وَهُوَ الْمُعْجِزُ، وَقِيلَ: هَذَا أَحْسَنُ؛ لِأَنَّهُ نَاسِخٌ قَاضٍ عَلَى جَمِيعِ الْكُتُبِ وَجَمِيعُ الْكُتُبِ مَنْسُوخَةٌ....
وقال ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى: ﴿
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، ﴿
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾؛ أَيْ: مِنْ حَيْثُ لَا تَعْلَمُونَ وَلَا تَشْعُرُونَ.
وقال البغوي في تفسيره لقوله تعالى: ﴿
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾؛ يَعْنِي: الْقُرْآنَ، وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ حَسَنٌ، وَمَعْنَى الْآيَةِ مَا قَالَهُ الْحَسَنُ: الْتَزِمُوا طَاعَتَهُ وَاجْتَنِبُوا مَعْصِيَتَهُ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ ذَكَرَ الْقَبِيحَ لِتَجْتَنِبَهُ، وَذَكَرَ الْأَدْوَنَ لِئَلَّا تَرْغَبَ فِيهِ، وَذَكَرَ الْأَحْسَنَ لِتُؤْثِرَهُ.
وقال الشوكاني عند تفسير قوله تعالى: ﴿
واتَّبِعُوا أحْسَنَ ما أُنْزِلَ إلَيْكم مِن رَبِّكم ﴾؛ يَعْنِي القُرْآنَ، يَقُولُ: أحِلُّوا حَلالَهُ وحَرِّمُوا حَرامَهُ، والقُرْآنُ كُلُّهُ حَسَنٌ؛ قالَ الحَسَنُ: التَزِمُوا طاعَتَهُ واجْتَنِبُوا مَعاصِيَهُ.
وقال ابن جُزَي في التسهيل لعلوم التنزيل عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾؛ يعني اتبعوا القرآن وليس أن بعض القرآن أحسن من بعض؛ لأنه حسنٌ كلُّه، إنما المعنى أن يتبعوا بأعمالهم ما فيه من الأوامر، ويجتنبوا ما فيه من النواهي، فالتفضيل الذي يقتضيه أحسن إنما هو في الاتباع.
وقال السعدي عند تفسير قوله تعالى: ﴿
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾، مما أمركم من الأعمال الباطنة؛ كمحبة الله، وخشيته، وخوفه، ورجائه، والنصح لعباده، ومحبة الخير لهم، وترك ما يضاد ذلك.
ومن الأعمال الظاهرة؛ كالصلاة، والزكاة والصيام، والحج، والصدقة، وأنواع الإحسان، ونحو ذلك، مما أمر الله تعالى به، وهو أحسن ما أنزل إلينا من ربِّنا، فالمتبع لأوامر ربِّه في هذه الأمور ونحوها هو المنيب المسلم، ﴿
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾، وكل هذا حثٌّ على المبادرة وانتهاز الفرصة.
إذًا يتَّضح لنا مما سبق إيراده لأقوال المفسرين في بيان تفسير قوله تعالى: ﴿
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ أن معناها ومرادها اتَّبِعوا القرآن الكريم، واتبعوا ما أمركم به ربُّكم في تنزيله، والتزموا طاعته وأوامره، وأحلُّوا حلاله، واجتنبوا ما نهاكم عنه في القرآن الكريم، وحرِّموا حرامه، واجتنبوا معصيته، فإن القرآن الكريم ذكر القبيح لتجتنبه، وذكر الأدْوَنَ لئلا ترغب فيه، وذكر
الأحسن لتؤثره.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل القرآن، فهم أهل الله تعالى وخاصته، وأن يعلِّمنا ويُفهمنا ما منه جهلنا، والحمد لله رب العالمين.
الألوكة