من الطبيعي أن يحاول كل تيار فكري فرض هيمنته الثقافية على كافة أطياف التنوع الثقافي في المحيط الذي يحاول التموضع فيه؛ لأن هذه الهيمنة جزء لا يتجزأ من طبيعته الملازمة له، بوصفه حراكاً ثقافياً يسعى - على نحو تلقائي، يفرضه المنطق الداخلي للبنية الثقافية - لتحقيق الانتشار والرواج، ومن ورائه، توجيه الفعل المتعين في البيئة الاجتماعية التي يمارس فيها فاعليته، لتنتقل سلطاته الفكرية المتعالية المجردة إلى سلطة فعلية تحاول توظيف المؤسسات المدنية لممارسة هيمنتها.
إذن، فالثقافة - أياً كانت - تسعى لتحقيق أكبر قدر من التنميط والهيمنة والتسلط والاحتكار الثقافي، الذي يقود بدوره، إلى التنميط والتسلط والاحتكار الفعلي في الواقع المتعين. وهذا النشاط الذاتي الذي تمارسه الثقافة لا تختص به ثقافة دون ثقافة، وإنما هو جزء من آلية الحراك الثقافي، حتى في أعلى صوره تفتحاً وتسامحاً وقبولاً للآخر؛ لأنه بشكل أو بآخر، ينطوي على محاولة للتعميم، قد تكون خافية، ولكنها - بالضرورة موجودة. ولا يشفع لها - أخلاقياً - إلا سلمية المحاولة التي تفتقدها كثير من أنواع الحراك الثقافي، ولا سيما إبان الهيمنة.
وإذا كان هذا السعي للهيمنة، أمراً طبيعياً في الحراك الثقافي بوجه عام؛ لأنه ممارسة للأبوية السلطوية الآمرة الناهية، ولو على نحو مسالم، فإن الأمر سيزداد سوءاً، والهيمنة ستكون أكثر حدية، والنتائج ستصبح أعظم وحشية، عندما تكون الثقافة التي تحاول الهيمنة ذات طبيعة قمعية في مضمونها، بحيث لا تقبل الآخر المختلف - أياً كانت درجة اختلافه - ولا تستطيع احتواءه كجزء من الكلي العام، إذ هو في تصنيفها القمعي، معتقل في دائرتها التكفيرية أو التبديعية أو التضليلية أو التفسيقية. وهي دوائر ليست هامشية في سياق الممارسة الفعلية لمثل هذه الثقافة، وإنما هي من أهم المفردات التي تكون العمود الفقري لخطابها. هذا، إن لم تكن هي المفردات التي تسوق بواسطتها مشاريعها الماضوية شعبوياً، عندما تجيش بها الهمج الرعاع، أتباع كل ناعق، كما وصفهم علي - رضي الله عنه - .
وبهذا، فما لم يكن المجتمع - أفراداً ومؤسسات - على درجة عالية من الحساسية تجاه كافة صور الهيمنة، والهيمنة الثقافية منها خاصة، فإن كل تيار فكري سيتسلل - لواذا - ليمارس قمعه الفكري، ونفيه للآخر، وسيحاول - على حين غفلة، وما وجد إلى ذلك سبيلاً - فرض ايديولوجيته الخاصة بكافة وسائل الإرهاب الفكري المدججة بكافة الأسلحة المادية والمعنوية، وسيمارس الحرب النفسية سراً وعلانية - متجرداً من الأخلاق الإنسانية العامة - حتى تتحقق له هيمنته التي يسعى إليها. ولن يبالي - من أجل تحقيق هذا الهدف - أن يسحق في طريقه، ما "يدعيه!" من قيم، وما يتشدق به من منطق، وما تختزنه ذاكرته من أدلة.
وإذا كان هناك من يعتقد أن الهيمنة الفكرية لتيار فكري محدد، في أي مجتمع، يمكن أن يحفظ الاستقرار لهذا المجتمع، فإن هذا - ابتداء - جهل أو تجاهل لأهمية جدلية الفكر في مسيرة الوعي، فضلاً عن الجهل بحقيقة الاستقرار، من حيث كونه تقبلا للمغاير، بوصفه موجودا كحقيقة موضوعية على أرض الواقع، ومن ثم، فإن نفيه - فكرياً - لا يعني انه أصبح معدوما. وهذا ما لا يعيه - أو لا يريد أن يعيه - أحادي الفكر في ممارسته لنشاطه الثقافي.
ومن الواضح ان في هذا دلالة على ان الاستقرار الذي ينتج عن هيمنة أحد التيارات الفكرية استقرار موهوم، يغتر به من لا يتبصر بما وراء جدلية الظواهر؛ لأنه - في الواقع الفعلي - ليس إلا تغييباً لموجود، لا يزال يطلب فرصته في الظهور، وإذا ظهر - تبعاً لمتغيرات الواقع الفعلي - فلا شك انه سيكون محملاً بترسبات الإقصاء السابق، مما يعني الوعي بالإقصاء سيكون محركه الأساس فيما يستقبل من نشاط.
ولعل أبرز مثال على الصهر الثقافي القمعي، وهيمنة الأفكار الشمولية الإقصائية ما فعلته الشيوعية، فقد كانت الشيوعية - كأيديولوجيا - تعي منذ البداية انها فكرة مؤدلجة، تسعى لتكون مهيمنة على الواقع المتعين، ومن ثم، فإن البعد الإقصائي كان ظاهرا فيها منذ أن كانت فكرة، مع انها ترى إقصاءها - كحال أية فكرة إقصائية - إقصاء مشروعا؛ لأنه خاضع لقوانين الإنتاج والتوزيع التي قامت عليها فلسفتها، والتي تسعى من خلالها لتحقيق العدالة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فهي تراه رداً على إقصاء سابق تسعى للانقلاب عليه. وبهذا، سعت الشيوعية - كنظام شمولي - لتغييب كافة الأديان، وطمس معالم الثقافات المغايرة، حتى في مظاهرها الشعبوية، مع أن تلك المظاهر لم تكن تحمل أكثر من دلالات الهوية المغيبة.
بهذا التنميط المتعمد الذي مارسته الشيوعية، بعد ان تمكنت كثقافة، ظهرت المجتمعات الشيوعية وكأنها مجتمعات ذات ثقافة واحدة، تحتضن كافة أنواع المغايرة في تلك المجتمعات سلميا، بحيث لا تظهر تلك الأنواع المغايرة إلا لماما، وهذا بلا شك قد أبهج رموز الايديولوجيا الشيوعية، وأقنعهم - زيادة على القناعة الدوغمائية لديهم - بصلاحية الفكرة. ومع ان هذا كان هو الظاهر الذي يجري التسويق له، إلا أن الجميع كان يعي انها ليست إلا ثقافة مهيمنة غيبت - قسراً - ما سواها، وأن الثقافات المغيبة كانت تغلي من الداخل. ولذا جاء سقوط الشيوعية - كثقافة قبل أن تسقط كنظام - فرصة لظهور الثقافات الأخرى. معبرة بذلك عن وجودها، بعد أن ظن الكثير أن الموت طواها.
وإذا كان هنالك ما يمكن تعويضه، فإن انسحاق ملايين من البشر، لعشرات السنين، تحت هيمنة ثقافة أحادية، ألغت كل تنوع، ومارست كل إقصاء، أمر لا يمكن تعويضه بحال؛ لأنه لا يمكن تعويض الإنسان. ولا يبقى من كل هذا، إلا الدرس العميق الذي منحته هذه التجربة للإنسانية الأليمة، والذي لابد أن يكون حاضرا في الوعي الإنساني كافة، هو أن هيمنة الثقافة الواحدة سيؤدي - بالضرورة - إلى انسحاق الإنسان، تحت سنابك التطرف والإرهاب، طال الزمان أو قصر.
وإذا كان المثال الشيوعي مثالاً بعيداً في المكان، - وإلى حد ما في الزمان - فليس ببعيد ما حاولته إحدى الايديولوجيات الإسلامية المعاصرة في بداية الثمانينيات الميلادية، من تصدير متعمد للفكرة التي هيمنت على مجتمعنا فمكنتها من الهيمنة كسلطة فعلية؛ كي تصبح الفكرة ذاتها مشروعاً لتعميم الهيمنة. ولكنها تنبهت - وإن كان على نحو غير واضح - إلى أن الثقافة المهيمنة على مجتمعات ذات تنوع ثقافي بطبيعتها، لا يمكن أن تؤدي في النهاية إلا إلى التعصب الذي يغري بمزيد من الإلغاء والنفي، لمن هو - في الأصل - يتململ من قيود تلك الثقافة المهيمنة، ومن ثم، فلابد لهذا الملغى والمنفي أن يسعى للمحافظة على وجوده، وقد لا يجد سبيلا إلى ذلك غير التعصب المضاد، وهذا - بدوره - يؤدي إلى تقويض الثقافة المهيمنة التي أريد تعميمها، ولكن الجاهل عدو نفسه.
وإذا كان الإنسان يطغى، متى ما أحس من نفسه الاستغناء، فإن الثقافة كبنية لم - ولن - تكون خارج هذا القانون الطبيعي الذي يحكم الأشياء كما يحكم الأشخاص. ولقد وعى العالم الغربي المتحضر هذه الحقيقة التي نطقت بها حقائق التاريخ قديما وحديثا، فرسخ مفهوم التنوع الثقافي، وكان ازدهاره متساوقا مع خروجه التاريخي المبهر - وبجهد ذاتي خالص - من أحادية الثقافة، وهيمنتها القمعية التي نمطت تلك المجتمعات - ثقافيا - لقرون عديدة. ولذا أصبح العالم المتحضر اليوم حذراً أشد الحذر من أن تهيمن ثقافة ما - أياً كانت - على ما احتفظ جاهداً به من تنوع، خاصة وأن الفترات "الاستثنائية" المعاصرة التي شهدت فيها بعض مجتمعاته نوعا من الهيمنة الثقافة أكدت له أن الكارثة ستكون أعظم؛ لكون الآليات التي ستستخدمها الثقافة في الهيمنة أكثر فاعلية، ومن ثم ستكون أكثر قمعاً ومأساوية، كما ظهر ذلك جلياً في التجربة النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا.
ومن هنا نستطيع أن نفهم سر الديناميكية التي تجلت في الحضارة الأمريكية المعاصرة، بحيث مكنتها من أن تكون أكبر منتج - مع أن الإنتاج ليس المعيار الأوحد للفاعلية الحضارية - في التاريخ الإنساني كافة. وذلك - في ظني - راجع إلى التنوع الثقافي الذي يطبع المجتمع الأمريكي ويرسم معالم هويته، إضافة إلى عوامل أخرى ليس هذا سياقها.
وهذا التنوع الثقافي الذي حظيت به الولايات المتحدة الأمريكية ليس تنوعاً في الثقافي المتعالي بوصفه منظومة أفكار يسعى لتفعيلها، وإنما هو تنوع يمتد في العمق الثقافي "بالمفهوم الأوسع للثقافة" لأنواع المهاجرين الذين لم ينقطعوا منذ أربعة قرون. انه تنوع غائر في أعماق اللاوعي الجمعي، قبل أن يكون تنوعاً في الثقافة الواعية، ومن ثم فهو تنوع في أعلى درجات التنوع. وهذا ما يفسر البعد الحيوي في الحياة الأمريكية كافة، بوصفه بعداً إيجابياً، كما يمكن أن تفسر به - من زاوية أخرى - ملامح السلب في الشخصية الأمريكية.
إن تعدد مراكز القوى الثقافية، وإعطاء كل ثقافة حيزاً في الحراك الثقافي العام، يضمن عدم انفراد أي تشكل ثقافي بالهيمنة؛ لأن انفراده سيؤدي بالضرورة إلى محاولة فرض ثقافته على بقية الثقافات الأخرى، وخاصة إذا كانت الثقافة ذات ملامح وثوقية. ولذا فإن السماح بحراك ثقافي يتجاوز قناعات الثقافة التي تطمع - بحكم شعبويتها - في فرض هيمنتها سيقلل من خطر أن تكون سلطة في الواقع الفعلي، تنفي ما سواها من الثقافات، وفي مسيرة هذا النفي الذي لن يتم دون ممانعة تمارس القتل والتفجير في كل ميدان.
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك