قوله: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ ﴾ الواو استئنافية، و"إذ" ظرف بمعنى "حين"، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: واذكر يا محمد حين قال ربُّك للملائكة مخبرًا لهم، وذكِّر به قومك.
و"الملائكة" جمع "مَلك"، وهم عالم غيبيٌّ خلقهم الله تعالى من نور، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((خُلِقت الملائكة من نور، وخُلِق الجانُّ من مارج من نار، وخُلِق آدم مما وُصِف لكم))[1].
والإيمان بالملائكة ركنٌ من أركان الإيمان الستة، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرِّه))[2].
فيجب الإيمان بهم على وجه الإجمال، كما يجب الإيمان بما ذكر في الكتاب والسنة من أسمائهم وأوصافهم وأعمالهم، وبما منحهم الله من قوة وقدرة على القيام بما كلِّفوا به من أعمال على جهة التفصيل، كما قال تعالى في وصفهم: ﴿ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ﴾ [فاطر: 1]، وقال تعالى في وصف خزنة النار: ﴿ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ ﴾ [التحريم: 6]، وقال تعالى في وصف طاعتهم وعملهم: ﴿ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6]، وقال تعالى: ﴿ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 27].
فمنهم الموكَّل بالوحي كجبريل عليه السلام.
كما قال تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 97]، وهو الروح الأمين كما قال تعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴾ [الشعراء: 193].
ومنهم الموكَّل بالقَطْر والنبات كميكائيل عليه السلام.
ومنهم الموكَّل بقبض أرواح بني آدم، وهو ملَك الموت وأعوانه من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب كما قال تعالى: ﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ﴾ [السجدة: 11]، وقال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ﴾ [الأنعام: 61].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء بِيضُ الوجوهِ.. وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة سُودُ الوجوه..))[3].
ومنهم الموكَّل بالنفخ بالصور، وهو إسرافيل عليه السلام.
ومنهم حملة العرش، كما قال تعالى: ﴿ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ﴾ [الحاقة: 17].
ومنهم الموكلون على العباد بحفظهم وحفظ أعمالهم، كما قال تعالى: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [الرعد: 11]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الانفطار: 10 - 12].
ومنهم الموكلون بالرحم والنطف كما في الحديث: ((فيرسل إليه الملَك، فينفخ فيه الروح))[4].
ومنهم الموكَّلون بالسؤال في القبر، كما في حديث البراء: ((ويأتيه ملَكانِ فيُجلِسانه فيقولان له: من ربُّك؟ وما دينك؟ وما هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم؟))[5].
ومنهم الموكلون بالشمس والقمر والأفلاك، ومنهم الموكلون بالجنة والنار.
ومنهم الموكلون بعمارة السموات بالعبادة والصلاة والتسبيح والتقديس، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ﴾ [الأعراف: 206]، وقال تعالى: ﴿ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ﴾ [الأنبياء: 20]، وقال تعالى حكاية عنهم: ﴿ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ﴾ [الصافات: 165، 166].
﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾؛ أي: إني مصير ومستخلف في الأرض خليفة.
وفي هذا إثبات الأفعال لله عز وجل، وأنه يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، كما قال تعالى: ﴿ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾ [البروج: 16].
والخليفة: من يخلف غيره وينوب عنه.
أي: إني جاعل في الأرض خليفة يقيم شرع الله في أرض الله، ويخلفه من بعده قرنًا بعد قرن، وجيلًا بعد جيل، كما قال تعالى: ﴿ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [ص: 26].
وقيل: خليفة لمن سبقه؛ لأن الأرض كانت معمورة بطائفة من المخلوقات الجن أو غيرهم، أفسَدوا في الأرض وسفَكوا الدماء؛ ولهذا قالت الملائكة: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ﴾ [البقرة: 30].
وفي الآية امتنان على آدم وذريته بالتنويه بذِكرِهم في الملأ الأعلى قبل خلقهم.
﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ﴾؛ أي: قالت الملائكة: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ﴾ والاستفهام هنا ليس اعتراضًا على الله، ولا حسدًا لبني آدم، وإنما هو استعلام واستجلاء لوجه الحكمة في جعل هذا الخليفة، مشوبًا بالتعجب؛ وذلك لعلمِهم أنه عز وجل لا يفعل إلا لحكمة، وأن المقصود من جعل الخليفة في الأرض هو إصلاحها وعمارتها.
و"مَن" موصولة؛ أي: أتجعل في الأرض الذي يُفسِد فيها بالكفر والمعاصي ﴿ وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ﴾؛ أي: إن من هذا الجنس من يفعل ذلك.
ومعنى ﴿ وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ﴾؛ أي: ويريق الدماء، وهذا من أعظم الفساد في الأرض، فعطفه على ما قبله أشبه بعطف الخاص على العام.
وهذه المقالة من الملائكة بحسب ظنهم أن هذا الخليفة في الأرض سيحدُث منه ذلك؛ ولهذا قالوا بعده: ﴿ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ﴾: الواو: حالية، أي: والحال أننا نسبح بحمدك، أي: نجمع بين تسبيحك وحمدك، ونقرن بينهما.
والتسبيح: تنزيه الله عن النقائص والعيوب وعن مماثلة المخلوقين، كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ﴾ [ق: 38]، وقال تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11].
وأن كل كمال فهو أولى به، كما قال عز وجل: ﴿ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الروم: 27].
ويطلق التسبيح على ما هو أعم من ذلك من أنواع العبادة كلِّها، كالذكر والصلاة وقول: "سبحانك ربنا وبحمدك"، و"سبحان الله وبحمده"، "سبحان الله العظيم" ونحو ذلك.
والحمد: وصف المحمود بصفات الكمال مع المحبة والتعظيم، فحمد الله وصفه بصفات الكمال مع محبته وتعظيمه.
﴿ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾التقديس: التعظيم والتطهير ومنه سميت الأرض المقدَّسة؛ أي: المطهَّرة، واللام في "لك" للاختصاص والإخلاص؛ أي: نعظِّمك ونمجدك ونكبِّرك ونصلِّي لك خاصة.
ويحتمل أن المعنى: ونحن نسبح بحمدك؛ أي: ننزهك ونثني عليك ونعظمك بالأقوال والأفعال، ونقدِّسك؛ أي: نعظمك ونطهرك بالاعتقاد في القلوب.
فجمعوا بين تنزيه الله عز وجل عن النقائص والعيوب وعبادته بالتسبيح، وإثبات الكمال له بالحمد، وتعظيمه وتطهيره بالتقديس، وعبَّروا بالجملة الاسمية في قولهم: ﴿ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ [البقرة: 30]؛ للدلالة على ثبوتهم واستمرارهم على ذلك، كما قال تعالى عنهم: ﴿ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ﴾ [الأنبياء: 20]، وقال تعالى: ﴿ فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ﴾ [فصلت: 38].
بينما عبَّروا بالجملة الفعلية الدالة على التجدد والحدوث في قولهم: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ﴾ [البقرة: 30]؛ أي: من يحصل منهم هذا الفعل تارة بعد أخرى.
وقول الملائكة: ﴿ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ ليس من باب التزكية لأنفسهم؛ لأن الله قد نهى عنها كما قال تعالى: ﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [النجم: 32]، وإنما قولهم هذا من قبيل الإخبار بأنهم يقومون بعبادته عز وجل، ويسبِّحون بحمده ويعظمونه، وامتداح تنزيه الله وحمده وتقديسه.
﴿ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ هذا جواب لقول الملائكة: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ﴾ الآية؛ أي: قال الله مجيبًا للملائكة على قولهم هذا: ﴿ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾من أمر هذا الخليفة، وما في خلقه من الحِكَمِ العظيمة من عمارة هذا الكون، وما في ذلك من المصالح الدينية والدنيوية والأخروية.
قال ابن كثير[6]: "إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم...".
وقال ابن القيم[7]: "رد على الملائكة لما سألوه كيف يجعل في الأرض من هم أطوعُ له منه؟ فقال: ﴿ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾، فأجاب سؤالهم بأنه يعلم من بواطن الأمور وحقائقها ما لا يعلمون، وهو العليم الحكيم، فظهر من هذا الخليفة من خيار خلقه ورسله وأنبيائه وصالحي عباده والشهداء والصديقين والعلماء وطبقات أهل العلم من هو خير من الملائكة، وظهر إبليس من هو شر العالمين، فأخرج سبحانه هذا وهذا، والملائكة لم يكن لهم علم لا بهذا ولا بهذا، ولا ما في خلق آدم وإسكانه الأرضَ من الحكم الباهرة".
وقال أيضًا: "فالرب تعالى كان يعلم ما في قلب إبليس من الكفر والكبر والحسد ما لا يعلمه الملائكة، فلما أمرهم بالسجود، ظهر ما في قلوب الملائكة من الطاعة والمحبة والخشية والانقياد، فبادروا إلى الامتثال، وظهر ما في قلب عدوِّه من الكبر والغش والحسد، فأبى واستكبر وكان من الكافرين.
ففي الآية إثبات الحكمة في أفعال الله عز وجل، سواء ظهرت للخلق أو لم تظهر لهم، والرد على من نفى الحكمة عن الله عز وجل في أفعاله، وقال: إنه يفعل لمجرد المشيئة بلا حكمة - كما تقول الأشاعرة.
وفيها الرد على المعتزلة القائلين بأنهم يحيطون بوجوه الحكمة في أفعال الله عز وجل، فينفون أمورًا كثيرة عن الله في عقولهم، ويدَّعون أن إثباتها ينافي حكمة الله، مثل نفيهم خلْقَه لأفعالِ العباد، بدعوى أنه لو خلقها كانوا مجبورين عليها، فكيف يعذِّبهم بما ليس فعلًا لهم؟ هذا لا يليق بالحكمة[8].
[1] أخرجه مسلم في الزهد والرقائق (2996) - من حديث عائشة رضي الله عنها.
[2] سبق تخريجه.
[3] أخرجه أحمد (4/ 287- 288، 296) - من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.
[4] سبق تخريجه.
[5] أخرجه أبو داود في السنة (4753).
[6] في "تفسيره" ( 1 /100).
[7] انظر "بدائع التفسير" (1/ 299، 302).
[8] انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" (8/ 91) "إيثار الحق على الخلق" ص (201) وما بعدها.
الألوكة
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك