وقوله: ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ معطوف على ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾، وهو وما بعده من الآيات للعبد، كما سبق بيانه.
ومعنى ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾: أي نخُصُّك بطلب العون منك في جميع أمورنا الدينية والدنيوية، في جميع الأوقات والأحوال، ونعتمد عليك في جلب المنافع ودفع المضار، مع تمام الثقة بك يا ربنا في تحصيل ذلك[1]، ونعلن لك عجزنا وضعفنا وبراءتنا من حَوْلِنا وقوتنا وحولِ كل مخلوق وقوته، فلا حول ولا قوة إلا بالله؛ ولهذا شُرِع للمسلم أن يقول عند قول المؤذن: حي على الصلاة حي على الفلاح: "لا حول ولا قوة إلا بالله"[2].
وفي الدعاء: ((اللهم لا تَكِلْني إلى نفسي طرَفةَ عين))[3].
قال ابن القيم[4]: "فإن قلت: فما معنى التوكل والاستعانة؟ قلت: هو حال للقلب ينشأ عن معرفته بالله، والإيمان بتفرُّده بالخلق والتدبير، والضر والنفع، والعطاء والمنع، وأنه ما شاء كان وإن لم يشأ الناسُ، وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه الناسُ، فيوجب له هذا اعتمادًا عليه، وتفويضًا إليه، وطُمأنينة به، وثقة به، ويقينًا بكفايته لما توكل عليه فيه، وأنه مليّ به، ولا يكون إلا بمشيئته، شاءه الناس أم أبَوْه. فتُشبه حالته حالةَ الطفل مع أبويه فيما ينوبه من رغبة ورهبة هما مَليَّان بهما، فانظر في تجرُّد قلبه عن الالتفات إلى غير أبويه، وحبسه همَّه على إنزال ما ينوبه بهما، فهذه حال المتوكل، ومن كان هكذا مع الله، فالله كافيه ولا بد، قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3]؛ أي: كافيه، والحسْبُ: الكافي، فإن كان مع هذا من أهل التقوى، كانت له العاقبة الحميدة".
وذُكِرت الاستعانة بعد العبادة مع أن الاستعانة من العبادة، من باب ذكر الخاص بعد العام، وتقديم حقِّه تعالى على حق عباده وحاجتهم، ومن باب تقديم الغاية المقصودة على الوسيلة، وتقديم الأهم على المهم.
والعبادة والاستعانة متلازمتان: فلا تتحقَّق أحدهما دون الأخرى فالعبادة لا تتحقق بدون الاستعانة بالله، وعونه للعبد، ولا يحصل العون من الله بدون عبادته، وطلب العون منه[5].
وبهما معًا يتحقق الإيمان، فبالعبادة الخالصة لله براءةٌ من الشرك، وبالاستعانة بالله دون سواه براءةٌ من الحَوْل والقوة، وتمام التفويض إلى الله عز وجل، وهما كمال الطاعة، وبهما تحصل السعادة الأبدية، والنجاة من جميع الشرور.
قال ابن القيم[6]: "وتقديم العبادة على الاستعانة في الفاتحة من باب تقديم الغايات على الوسائل؛ إذ العبادة غاية العباد التي خُلِقوا لها، والاستعانة وسيلة إليها، ولأن ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ متعلِّق بألوهيته واسمه "الله"، و﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ متعلق بربوبيته واسمه "الرب"؛ فقدم ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ على ﴿ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾، كما تقدم اسم "الله" على "الرب" في أول السورة[7]، ولأن ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ قسم الرب، فكان من الشطر الأول الذي هو الثناء على الله تعالى لكونه أولى به، و﴿ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ قسم العبد، فكان من الشطر الذي له وهو ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6] إلى آخر السورة؛ لأن العبادة المطلقة تتضمن الاستعانة من غير عكس، فكل عابد لله تعالى عبوديةً تامة مستعينٌ به، ولا ينعكس؛ لأن صاحب الأغراض والشهوات قد يستعين به على شهواته، فكانت العبادة أكمل وأتم؛ ولهذا كانت قسم الرب، ولأن الاستعانة جزء من العبادة، من غير عكس، ولأن الاستعانة طلب منه، والعبادة طلب له، ولأن العبادة لا تكون إلا من مخلص، والاستعانة تكون من مخلص ومن غير مخلص، ولأن العبادة حقُّه الذي أوجبه عليك، والاستعانة طلب العون على العبادة، وهو بيان صدقته التي تَصدَّق بها عليك، وأداء حقه أهمُّ من التعرض لصدقته، ولأن العبادة شكر نعمته عليك، والله يحب أن يُشكَر، والإعانة فعلُه بك، وتوفيقه لك.
فإذا التزمت بعبوديته، ودخلتَ تحت رِقِّها، أعانك عليها، فكان التزامها والدخول تحت رِقِّها سببًا لنيل الإعانة، وكلما كان العبد أتم عبودية، كانت الإعانة من الله له أعظم.
والعبودية محفوفة بإعانتين: إعانة قبلها على التزامها، والقيام بها، وإعانة بعدها على عبودية أخرى، وهكذا أبدًا حتى يقضي العبد نَحْبَه.
ولأن ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ له، ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ به، وما له مقدَّمٌ على ما به؛ لأن ما له متعلقٌ بمحبته ورضاه، وما به متعلقٌ بمشيئته، وما تَعلَّقَ بمحبته أكمل مما تعلَّق بمجرد مشيئته، فإن الكون كله متعلِّق بمشيئته، والملائكة والشياطين، والمؤمنون والكفار، والطاعات والمعاصي، والمتعلق بمحبته طاعاتهم وإيمانهم؛ فالكفار أهل مشيئته، والمؤمنون أهل محبته؛ ولهذا لا يستقر في النار شيء لله أبدًا، وكل ما فيها فإنه به تعالى وبمشيئته، فهذه الأسرار يتبين بها حكمة تقديم ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ على ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾".
وقد قرن الله تعالى بين عبادته وبين الاستعانة به والتوكل عليه، وأكد ذلك في مواضع كثيرة من القرآن الكريم.