كانت الناس في ثمانينات القرن الهجري الماضي - خاصة في معظم قرى السعودية -تدور في محيط قبائلها ، تحرث مزارعها ، وتبني ديارها، يسكن الولد -إذا تزوج -مع والده ... ويعيش الجميع بمفهوم الأسرة الواحدة .... وهكذا
عاش الناس ردحاً من الزمن
ثم ماذا .... ثم فتحت المدينة ذراعيها لأهل القرى ، تغريهم
بالوظائف ، ورغد العيش ؛ فذهب بعض أفراد القبيلة لتحسين الوضع فترة من الزمن ، ثم العودة والاستقرار في مسقط الرأس، ولكن القادم من المدينة كان يعود لقبيلته وقريته بهيَُّّ الطلعة ، جميل الملبس ، لديه المال والسلاح .... فتحيي القبيلة والقرية لاستقباله بالأفراح ، والليالي الملاح ، وبقيت بهذا الاحتفاء تبذر حب الرحلة في قلوب الجيل الصاعد ..
لكِ اللهُ أيتها القبيلة والقرية ، كم كنت كريمة وأصيلة ولكنك بالغتي في الكرم ؛ فمددتِ المدينة بالسواعد المفتولة ، التي كانت تحرث وتزرع ، وتحطب وتسرح ، وتذرِّي وتمرح ، وتحفر وتنثل وتبني وتكْحل ..
عندها أيتها القرية والقبيلة فقدتِ أعظم مقوماتك ؟
فهل ياترى ستستعيدين من المدينة ما أخذت منك !!
وهل تعودين لعصرك الذهبي ، متوشحة بزينة العلم وقوة المال وصلابة الرجال ؟!
هل ستعودين بمزارع منتجة وأجيال متوثبة ، وقلوب صافية نقيه!؟
كلما تأملت :
أين القرية التي كانت تستيقظ مع الفجر ولها دوي كدوي النحل ؟
أين القرية التي كانت تتمتع باكتفائها الذاتي ؛ فتأكل من حَبٍ بذرته ، ثم حصدته ، سمنها من حلال مراعيها
لا من شركة المراعي ، والعسل من مناحل نحّالة محليين ، وجرّامة أصليين .؟
أين القرية التي تستقي ماءها في قربة من صنع نسائها ، وتحرث أرضها بمحراث صُنع محلياً وكل مايخص الزراعه بأيدي أبنائها .من الأشجار المعمره ؟
أين القرية التي تخرج سوارحها ضحىً كأنها قِطعٌ من نوِّ الخريف تتمازج أصواتها ببدوع رعاتها لتؤلف أعذب الأغاني بين القرية ومراعيها ؟
أين القرية التي تسمع للعَمَّالة فيها أصواتاً وزملات ، فهذا ، يعمل ،وذا ،
يوسد ، وذا يدمس ،
وذا يقصب ، وذايسوي المجاري للماء،
وربة بيت تلحقهم في الغدوة بزنبيل تتطاول مع جوانبه قرصان البر ، وبراد الشاي المحجل بالسواد يوحي بجلسة استراحة لا أروع ولا أهنأ منها ، نشم فيها رائحة الطين المحروث في بساطة وتآلف لا تجد لهما مثيلا .
أيتها القرية أين صلاة العيد التي كانت لها فرحة تطرد النوم من البيت ، وأين طلائل البرك والشيح والريحان التي كانت تزين رؤوس الشيبان وجيوب الشباب ؟
أين مهرجان العرضة واللعب وادخالاً للسرور في كل مكان لقد كانت القرية رغم التعب والإجهاد ، تتمتع بالفرح رغم قسوة الحياة ؟!
أين المناصع البعيدة التي يتبارى فرسان الرماية في كسرها في إشارة على الاستعداد للحرب وكسر العدو ؟
أين القسوم من اللحم التي يظفر بها كل من يوشي ويطبخ و ينزع ويقسم؟
أين المعاصيب، أين صحفة المشغوثه، أين أقداح المرق التي كُنَّا نتسلّى بها في " الجرين" بعدما نُدْني الضيوف ؟
أين أكرمْ يا مضيفنا ، وأكرم الله ضيفاننا وجماعتنا
.. واخلف الله عليك .
ياسقى الله تلك الأيام على ما فيها من صعوبات ومشقة ، فلها في القلب حنين ، وتذكارها ينتزع من الصدر الأنين ..
سلامٌ عليك أيتها القرية والقبيلة ، وتحية أبعثها - رغم غُربة هذا الزمن - ، وفاءً لك ، مسلماً عليك ، وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي. 😭
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك