إن مشاعر
الخوف عند الإنسان هي فرط أحاسيس وأعراض تنبعث من جوف الإنسان وتبرز واضحة على ظاهره الخارجي وخاصة الوجه , وذلك بسبب ما يتعرض له من أمور تتسبب له في حدوث ذلك
الخوف والقلق لديه , فيعرف المتأمل بالنظر إلى الخائف أنه قد تلبس بحال يدل على أنه مصاب بالخوف , كمن يرى على الخائف رجفة في بدنه من غير برد أو حدوث تغير في وجهه بحمرة أو صفرة وكذلك التلعثم في الكلام وضيق في النفس وغيره من أعراض أخرى يصعب إخفائها , ومصادر
الخوف متعددة وكثيرة , فمن الناس من يخاف من ظلمة الليل ومنهم من يخاف من قصص الأساطير التي يكثر في ذكرها الجان والسحرة , وآخرون يخافون من الأصوات المرتفعة كحدوث دوي مفاجئ ولو انفجار إطار سيارة , وآخرون يخشون من رؤية العساكر وحشودهم وسلاحهم .
وهناك من يهاب السلاطين وحاشيتهم وحتى الدخول عليهم ويصاب بنوبة خوف وارتباك منهم , وقد جاء في الأثر عن عثمانَ بنِ عفانَ رضِيَ اللهُ عنه أنه قال : إنَّ اللهَ يزعُ بالسلطانِ ما لا يزعُ بالقرآن , أي أن عامة الناس تهاب السلطان وتنصاع له وتمتثل لأوامره أشد من انصياعهم وامتثالهم لأوامر الله طواعية , ويذكر أن امرأة في عهد عمر الفاروق رضي الله عنه قد أرسل في طلبها لأمر ما وكانت حاملا فلما وصل إليها دعوته ارتعبت وأصابها خوف شديد من طلب عمر حتى أسقطت حملها , فذكروا ذلك لعمر واستفتى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيما حصل فأفتى بدية ذلك الجنين , فقال والله لأتحملن دية ذلك الذي سقط فأنا من أخافها أو كما جاء في الرواية , فخافت منه لشدة ما تسمع من هيبة الناس لعمر الفاروق وشدته في الحق , ولم يكن يريد الأضرار بها رضي الله عنه ولكن
الخوف أحيانا يتملك بعض الأنفس فتصاب بالهلع الشديد .
أما المؤمن الصادق فإن مشاعر
الخوف تبرز لديه اتجاه ربه وتتملك فؤاده ومشاعره , فإذا ذكر الله تحت أستار الظلام حينما يهجع الناس في بيوتهم فإن النوم يأبى عليه لكثرة التفكر في عظمة الخالق , فيبقى مستيقظا متأملا يناجي ربه , مستغفرا ذاكرا لله يرجوا رحمته ويخشى عذابه , وهذا الحال يكثر في أهل الصلاح والتقوى الذين تمكن الإيمان من حجرات قلوبهم , وقد ذكر الله أحوال بعضهم في كتابه , قال تعالى (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) السجدة (16) , وأحيانا يصاحب
الخوف من الله بكاء شديد إذا استحضر عظمة ربه وهيمنته على خلقه , وتختلط مشاعر
الخوف أحيانا مع العبادة فمع انشغالهم بالقيام والركوع والسجود في صلاة الليل إلا أن
الخوف من
الجليل يتلبسهم وهم على تلك الحال فيبكون بعد استحضار قلوبهم لعظمة الله , قال تعالى (وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ) الإسراء (109) , فكلما رق القلب ازدادت خشيته لله وخشعت جوارح ذلك الإنسان الصالح وسالت عبراته وتذكر هفواته وطلب عفوه من فاطر السموات والأرض .
إن
الخوف الذي يصيب البشر خوفان خوف محمود وخوف محرم مذموم , فالخوف المحمود هو التحرز من أسباب حصول الضرر كالذي يخاف من المشي في أرض موحشة مقفرة أو مناطق ينتشر فيها قطاع الطرق أو السباحة في المياه العميقة أو الابتعاد عن مجاري السيول وغيرها من أخطار كثيرة , فهذا
الخوف محمود لأن فيه حفظ للنفس ولا يناقض التوكل على الله بل يعد من صحيح الاعتقاد أن تعمل بالأسباب المنجية من الخطر ثم تتوكل على الله , إن نبي الله يعقوب ألمح في حديثه لأبنائه خوفه من الذئب على يوسف عليهما السلام مع علمه انه لا يقع شيء على الخلق إلا بأذن الله ولكن الأخذ بالأسباب مطلوب والخوف مما عرف بالضرر أمر فطري يحتاط له العاقل ويحذر منه , قال تعالى (قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) هود , فالخوف من الضواري والسباع أمر فطري لا يخالف العقيدة بل يتماشى مع الجبلة البشرية الموجودة في الإنسان , وكذلك خوف موسى وهارون عليهما السلام من بطش فرعون وجنوده الظلمة , قال تعالى ( قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى )(46) طه , فتجنبك الوقوع بين أيادي الظلمة خوف محمود , فلما جاءهم الأمر بالتوجه إلى فرعون ودعوته نزلت عليهما السكينة بعد أن أحسا بمعية الله لهما وحفظه لهما من فرعون وظلمه فزال
الخوف عنهما وتوكلا على الله , والخوف كذلك يحصل من الأمور التي لم تعهد وتألف بين البشر , كمثل خوف موسى عليه السلام لما رأى اهتزاز العصا التي كانت بيده , قال تعالى (وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) النمل , فالخوف طبيعة موجودة في الإنسان مما لم يعتاد البشر رؤيته في حياتهم .
إن من تيقن معية الله فإن مشاعر
الخوف لابد أن تتبدد وتزول عنه كمثل تبدد الضباب حين شروق الشمس , فإن نبي الله إبراهيم عليه السلام لما أراد قومه كيده وإحراقه فإنه لم يعر لتصرفاتهم أدنى وزن بل كان واثقا من حفظ الله له غير مكترث بما يتوعدون , قال تعالى (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) الأنبياء , إن
الخوف الذي أعتاد الإنسان أن ينزل به لحدث ما , فإنه يزول إذا جعل المؤمن الصادق خوفه خوفا واحدا وأمنه أمنا واحد , أي أنه لا يهاب ولا يخاف إلا من الذي بيده ملكوت كل شيء , قال تعالى ( وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ ) النحل (51) , أي لا يوجد إله أخر يأتيك منه الضرر فلما
الخوف , وقال في الأمن (أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) الملك , أي أن الله الذي بيده الأمن للخق جميعا من كل شيء ومن كل جهة , فمن خلى قلبه من تعظيم أي شيء غير الله فإنه لن يجتمع في قلبه خوف من الله وخوف من غيره , وهذه مراتب الأنبياء والصديقين الذين أمنوا إيمانا صادقا راسخا بربهم كرسوخ الجبال فاطمأنت قلوبهم وسكنت إليه وأعرضت عن غيره .
أما
الخوف المذموم فهو أن يعتقد المسلم أن غير الله بيده جلب الضر أو دفعه , فيخضع له خضوع المخلوق لخالقه فلا يعصي له أمرا خوفا من أن يصيبه ذلك الضرر , وهذا مخالف لمعتقد الإسلام , فلا ضار ولا نافع إلا الله أي أن بيده النفع كله والضر كله ولا يصيب الإنسان شيء إلا بقدر يقدره الله على الخلق , فإن أذن بوقوع ما يخاف منه وقع وإن لم يأذن لم يقع , كالذي يخاف من السحرة والشياطين وأعوانهم, قال تعالى ( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ) البقرة (102) أي أنه لن يقع ضرر أفعال السحرة على أحد إلا بشيء قد أذن الله بوقوعه اختبارا للعباد في صبرهم ولحكم أخرى لا يعلمها الناس , وقد يخوف الشيطان الناس من الفقر , قال تعالى (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )البقرة(268) , أي أن الشيطان يخوف الناس بالإصابة بالفقر إذا أنفقوا وتصدقوا والفقر والغنى ليس بيد الشياطين ولا بيد أحد غير الله , وكذلك يخوف الشيطان الناس من مواجهة أهل الباطل , قال تعالى ( إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ال عمران (175) , فلن يقع في ملك الله شيء خارج عن إرادته فالجميع في قبضته تحت سمعه وبصره .
إن العلم بأسماء الله وصفاته يزيد المؤمن معرفة بربه وكلما عرف المؤمن ربه فإنه يزداد هيبة وخشية له , قال تعالى (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ) فاطر(28), وذكر الله كذلك يرقق القلب ويطهره من الشوائب , قال تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) الأنفال(2) , فكلما طهر القلب ازداد خوفا وقربا من الله , فعلى المؤمن أن يراقب قلبه ويكثر من الطاعات البدنية والمالية ويشغل لسانه بذكر الله وتذكر الموت والآخرة فكل ذلك يزيده خشية لله وخشوعا , أسأل الله أن يجعلنا من الذاكرين الخاشعين له العارفين بقدره ... والحمد لله رب العالمين .