مدخل:
في القرآن الكريم دروسٌ عدَّة، لها أهداف سامِيَة عالِيَة المقاصد نبيلة الغاية والوسيلة، بخِلاف القوانين والمناهج الأرضيَّة، وهي بهذا تَرسُم الطريق المستقيم المُوصِل للسعادة الأبديَّة في الآخِرة، والسعادة في الدنيا أيضًا، وفي هذه السورة الكريمة خمسةُ دروسٍ سنَقِف على رَوائِعها البيانيَّة والتبيينيَّة، ومَرامِيها التربويَّة والإيمانيَّة، لنَصِل إلى فكرة رئيسة مفادُها ضرورة تسبيح الخالق - سبحانه وتعالى.
بين يدي السورة:
في هذه السورة الكريمة تبيانٌ للمعاني الجليلة التي يَحتاجُها كلُّ مسلم ومسلمة؛ ليفهم وظيفته في هذه الدنيا، والملخَّصة في التزكية والابتِعاد عن الأعمال المسبِّبة للشقاوة؛ لأنها مصدر العناء في الدنيا والآخِرَة، وهذا دستورٌ رباني بيَّنَه ربُّنا في الكتب السابقة منذ عهد إبراهيم - عليه السلام - وسيدنا موسى - عليه السلام - فسورة الأعلى، وتُسمَّى أيضا سُورَةُ "سَبِّحْ"، هي مكيَّة من المفصَّل، وعدد آياتها تسعة عشر (19) وترتيبها في المصحف السابعة والثمانون، نزلَتْ بعد سورة التكوير، بدأت السورة بفعل أمر ﴿ سبح ﴾ وهي في الجزء الثلاثين (30) - والحزب الستون (60)، في الربع الخامس (5)، وفي روايةٍ للإمام أحمد عن الإمام علي - رضِي الله عنْه - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يحبُّ هذه السورة: ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴾ [الأعلى: 1]، وفي "صحيح مسلم" أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يقرأ في العيدَيْن ويوم الجمعة بـ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴾ [الأعلى: 1]، و﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ﴾ [الغاشية: 1]، وربما اجتَمَعا في يومٍ واحد فقرأهما.
هذا كلُّه يدلُّنا على حبِّ النبي الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - لهذه السورة الكريمة، فنَسأَل اللهَ أن يرزقنا حبَّها وحبَّ القرآن والسنَّة معًا.
الدروس البيانيَّة الخمسة للسورة:
عمومًا: السورة تتحدَّث عن "الخلق والتسوية، والتقدير والهداية، وإخراج المرعى وأطواره؛ تمهيدًا للحديث عن الذكر والآخرة"[1]، والحساب والجزاء والصُّحُف السَّوالِف، ولكن من خلال الملاحظة المتأنِّية في أجزاء السورة الكريمة نستشفُّ دروسًا بيانيَّة خمسة تُرسِلها السورة للقارئ المتبصِّر، والمدقِّق المتدبِّر، ليقف عند كلِّ حرف وكلمة وجملة فيها، فيُظهِر له ذلك التناسُقُ البديع والمُعجِز بينها كلها جمالاً في العبارة، وجمالاً في المعنى، وجمالاً فيهما معًا.
الدرس القرآني الأوَّل: تسبيح وتنزيه للعلي القدير:
تطلُّ علينا هذه السورة من خِلال لفظٍ رائع في البَيان، دقيقٍ في الاختِيار، منزِّهٍ المولى عن كلِّ نقص، وجامِعٍ لجميع صِفات الجلال والجمال والكمال، "الافتِتاحُ بأمرِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأنْ يُسَبِّحَ اسْمَ ربِّه بالقول، يُؤذِن بأنَّه سيُلقِي إليه عَقِبَه بشارةً وخيرًا له، وذلك قوله: ﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى... ﴾ [الأعلى: 6] الآيات كما سيأتي، ففيه براعةُ استِهلال"[2].
فالتسبيح والتنزيه، والتعظيم والتمجيد، والثناء الأعظم لله - سبحانه وتعالى - ونُسبِّحه لأنَّه الخالق، فكلُّ ما نَراه في هذا الوجود أمامَنا مَن الذي أوجده؟ (جبال، بحار، سماء، أنجم، أقمار، زوجة، أولاد، أنعام...)، مخلوقاتٌ كثيرة لا يستَطِيع أيُّ مخلوقٍ أن يُحصِيها مجرَّد الإحصاء فقط، فما بالك بأن يفهم حقيقتها وسرَّ وجودها؟ لهذا جاء السياق مبدوءًا بـ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴾ [الأعلى: 1]، ما تملك أيُّها الإنسان إلا أن تُعظِّم خالِقَك وخالق كلِّ شيء.
ثم ينتَقِل بنا السِّياق القرآني الكريم إلى تِبيان النِّظام العجيب الذي رسَمَه الله - سبحانه وتعالى - للكون علويِّه وسفليِّه، فالنحلة مثلاً لها قانونها الذي تسير وَفْقَه لا تَحِيدُ عنه أبدًا، تُفَرِّق بين الشوك والزهر، تصنع العسل في خِيَمٍ سداسيَّة الأضلع!
نزِّه "اسم ربك عن أن تُسمِّي به غيرَه؛ فيكون ذلك نهيًا عن أن يُدعَى غيرُه باسمه، كما كان المُشرِكون يُسمُّون الصنمَ باللات، ومسيلمة برحمن اليمامة".
وقد يكون المراد بـ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴾؛ أي: مَجِّده بأسمائه التي أنزَلَها عليك وعرفك أنها أسماؤه كقوله: ﴿ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ ﴾ [الإسراء: 110]، ونَظِيرُ هذا التأويل قوله - تعالى -: ﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ [الواقعة: 74]، ومقصودُ الكلام من هذا التأويل أمران: أحدهما: ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴾؛ أي: صَلِّ باسم ربِّك، لا كما يُصلِّي المشركون بالمكاء والتصدِيَة، ودعاء غير الله من الأصنام والأوثان، والمعتقدات الأخرى الفاسدة عقلاً ونقلاً. والثاني: ألاَّ يذكر العبد ربَّه إلا بالأسماء التي ورَد التوقيفُ بها في النُّصوص المعلومة، قال الفرَّاء: لا فرقَ بين ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ ﴾ [الأعلى: 1] وبين ﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ ﴾ [الواقعة: 74].
قال الواحدي: وبينهما فرقٌ؛ لأن معنى ﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ ﴾ "نزِّه اللهَ - تعالى - بذكر اسمه المُنبِئ عن تنزيهه وعلوِّه عمَّا يقول المُبطِلون، و﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ ﴾؛ أي: نزِّه الاسم من السوء"[3].
فإذا قلنا: ﴿ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1] أو قلنا: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ... ﴾ [الحشر: 23] إلى آخر السورة كان ذلك تسبيحًا لاسمه.
والأعلى - كما جاء في كتب التفسير - صفةٌ للربِّ، وقيل: للاسم، والأوَّل أَوْلَى؛ فلفظ ﴿ الأعلى ﴾ اسمٌ يُفِيد الزيادةَ في صفة العلو؛ أي: الارتفاع، والارتفاع معدودٌ في عرف الناس من الكمال، فلا ينسب العلو بدون تقييد إلا إلى شيءٍ غير مذموم في العرف، ولذلك إذا لم يذكر مع وصف الأعلى مفضَّل عليه أفاد التفضيل المُطلَق، كما في وصفه - تعالى - هنا، ولهذا حُكِي عن فرعون أنَّه قال: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24].
وقوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ﴾ [الأعلى: 2]، هي صفةٌ أخرى للربِّ، وفي هذا بيانٌ على أنَّ الصفة ليست فضلةً كما نتعلَّم في المدارس والجامعات، بل هي هنا أساسيَّة وعمدة؛ لأنها تمثِّل ذكر صفةٍ للذات العليَّة.
وقد قال الزجَّاج في معنى الآية الكريمة: "خلق الإنسان مستويًا"، ومعنى "سوَّى": عدَّل قامته، قال الضحَّاك: خلَقَه فسوَّى خلقه، وقيل: خلق الأجساد، فسوَّى الأفهام، وقيل: خلق الإنسان وهيَّأه للتكليف، ومن المعاني الأُخَر للتسوية أنَّه خلَقَه على الفطرة كما جاء في الحديث الصحيح عن الرسول محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كلُّ مولود يُولَد على الفطرة...)).
وفي الآية الكريمة جمع بين الخلق والتسوِيَة بواسطة حرف العطف "الفاء"، وهذا يُبَرهِن على قمَّة التعبير القرآني؛ فالسرعة المُستَشَفَّة بين الخلق والتسوية لا تترك أمامَ القارئ المتدبِّر أيَّ مجالٍ للبحث في صفَة هذا الخلق، فجاءت الإشارة مُباشَرةً لتُبيِّن أنَّ هذا الخلق جاء مستويًا كامل الخلقة، ومن ثَمَّ هي برهانٌ على قدرة الخالق - سبحانه وتعالى - ﴿ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴾ [المرسلات: 50].
﴿ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ﴾ [الأعلى: 3] صفةٌ أخرى للربِّ، أو معطوف على الموصول الذي قبلَه، قرَأ عليُّ بن أبي طالب، والكسائي، والسلمي: ﴿ قَدَرَ ﴾ مخفَّفًا، وقرأ الباقُون بالتشديد، قال الواحدي: قال المفسِّرون: قدَّر خلق الذكر والأنثى من الدوابِّ، فهَدَى الذَّكَر للأنثى كيف يَأتِيها.
والمقدار: أصلُه كميَّة الشيء التي تُضبَط بالذراع أو الكيل، أو الوزن أو العد، وأطلَقَ هنا على تكوين المخلوقات على كيفيَّات منظمة مُطَّرِدة من تركيب الأجزاء الجسديَّة الظاهرة مثل اليدين، والباطنة مثل القلب، ومن إيداع القُوَى العقليَّة كالحس والاستطاعة وحِيَل الصناعة.
وقال مجاهد: هدى الإنسان لسبيل الخير والشرِّ، والسعادة والشقاوة، ورُوِي عنه أيضًا أنَّه قال في معنى الآية: قدَّر السعادة والشقاوة، وهدى للرشد والضلالة، وهدى الأنعام لمراعيها.
وقيل: قدَّر أرزاقهم وأقواتهم، وهداهم لمعايشهم إنْ كانوا إنسًا، ولمراعيهم إنْ كانوا وحشًا.
وقال عطاء: جعَل لكلِّ دابَّة ما يُصلِحها وهداها له.
وقيل: خلَق المنافع في الأشياء، وهدَى الإنسان لوجه استِخراجها منها.
وقال السديُّ: قدَّر مدَّة الجنين في الرَّحِم تسعة أشهر وأقل وأكثر، ثم هَدَاه للخروج من الرَّحِم.
قال الفرَّاء: أي: قدَّر فهدى وأضلَّ، فاكتَفَى بأحدهما، وفي تفسير الآية أقوالٌ غير ما ذكرنا، والأَوْلَى عدم تعيين فرد أو أفراد ممَّا يصدق عليه قدَّر وهدى إلا بدليلٍ يدلُّ عليه، ومع عدَم الدليل يحمل على ما يصدق عليه معنى الفعلَيْن، إمَّا على البدل، أو على الشمول، والمعنى: قدَّر أجناسَ الأشياء وأنواعَها، وصفاتها، وأفعالها، وأقوالها، وآجالها، فهدى كلَّ واحدٍ منها إلى ما يصدر عنه وينبَغِي له، ويسَّرَه لما خُلِق له، وألهَمَه إلى أمور دينه ودنياه.
ونستَنتِج ممَّا سبق أنَّ الله - سبحانه وتعالى - قدَّر المقادير لهذه المخلوقات علويِّها وسفليِّها، ولم يتركها هكذا هملاً، بل هَداها بواسِطَة وسائل تُوصِلها لحسن التعامُل مع هذه المقادير؛ لكي تَسِيرَ الأمور وفقَ ميزان، ولكي لا يحدث طغيانٌ في الميزان.
﴿ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى ﴾ [الأعلى: 4] تَتوالَى الصفات، وهذه صفةٌ أخرى للربِّ؛ أي: أنبَتَ العشب، وما تَرعاه النعم من النبات الأخضر ﴿ فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى ﴾ [الأعلى: 5]؛ أي: فجعَلَه بعدَ أنْ كان أخضر غثاء؛ أي: هشيمًا جافًّا كالغُثاء الذي يكون فوقَ السيل ﴿ أحوى ﴾؛ أي: أسود بعد اخضِراره، وذلك أنَّ الكلأ إذا يبس اسودَّ، وجاء في قواميس اللغة أنَّ الحُوَّةَ – بالضم -: سَوادٌ إلى الخُضرَة، أو حُمرَة إلى السَّواد، وحوي كـ"رَضِيَ"، حَوًى واحْواوَى واحْوَوَى واحْوَوَّى، مُشدَّدةً، فهو أحْوَى، واحْواوَت الأرضُ واحْوَوَّتْ: اخضرَّتْ، وشَفةٌ حوَّاءُ: حَمْراءُ إلى السَّواد، والأحْوَى: الأسودُ، والنبات الضارب إلى السوادِ لشدَّة خُضْرَتِه، وفَرَسُ قتَيْبة بن ضرارٍ، والحُوَّاءة، كرُمَّانة: بَقلَة لازقةٌ بالأرض، واللازم في بيته، والحَوَّاءُ: أَفْراسٌ، وزوجُ آدمَ - عليهما السلام - وحُوَّة الوادي، بالضم: جانِبُه، وحُوْ، بالضم: زَجْرٌ للمِعْزَى، وقد حَوْحَى بها، ولا يَعْرِفُ الحَوَّ من اللَّوِّ؛ أَي: البَيِّنَ من الخَفِيِّ، وخلاصة ذلك أنَّ الأحوى سوادٌ يُرَى في النبات.
الدرس الثاني: 6 - 7 البشرى بحفظ القرآن الكريم:
وهنا موقعُ البيان الصريح بوعده بأنَّه سيَعصِمه من نِسيان ما يُقرِئه فيبلِّغه كما أوحى إليه ويَحفَظه من التفلُّت عليه؛ ولهذا تكون هذه الجملة استِئنافًا بيانيًّا؛ لأنَّ البشارة تُنشِئ في نفس النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ترقُّبًا لوعد بخير يَأتِيه فبشَّرَه بأنَّه سيَزِيده من الوحي، مع ما فرَّع على قوله: ﴿ سنُقرِئك ﴾ من قوله: ﴿ فَلاَ تَنْسَى ﴾ وإذ قد كانت هذه السورة من أوائل السور نزولاً.
﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى * وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى * فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى ﴾ [الأعلى: 6 - 9]؛ والمعنى: سنجعلك قارئًا بأن نُلهِمك القراءَة، فلا تَنسَى ما تقرَؤُه، والجملة مُستَأنَفة لبَيان هِدايَته الخاصَّة به بعدَ بَيان الهداية العامَّة، وهي هدايته - صلَّى الله عليه وسلَّم - لحفظ القرآن.
قال مجاهد والكلبي: كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا نزَل عليه جبريلُ بالوحي لم يَفرُغ جبريل من آخِر الآية حتى يتكلَّم النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأوَّلها مخافةَ أن يَنساها، فنزلت: ﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ﴾ [الأعلى: 6].
ومن هنا فإنَّ البشرى بدَأت برفع عَناء الحفظ لهذا القرآن، والكدِّ في إمساكه عن عاتِق الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم.
﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ﴾ فعليه القراءَة يتلقَّاها عن ربِّه، وربُّه هو المتكفِّل بعدَ ذلك بقلبه، فلا ينسى ما يُقرِئه ربُّه.
وهي بشرى للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما رأينا، تُرِيحه وتُطمئِنه على هذا القرآن العظيم الجميل الحبيب إلى قلبه، الذي كان يندَفِع بعاطفة الحبِّ له، وبشُعُورِ الحرص عليه، وبإحساس التَّبِعَة العُظمَى فيه... إلى تَردِيدِه آيةً آيةً، وجبريل - عليه السلام - يحمله إليه، وتحريك لسانه به خيفةَ أن يَنسَى حرفًا منه، حتى جاءَتْه هذه البشائر المطمئنة بأنَّ ربَّه سيتكفَّل بهذا الأمر عنه.
وهي بشرى خاصَّة وعامَّة؛ خاصَّة لكونها بشرى للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعامَّة لكونها بشرى لأمَّته من بعدِه إلى يوم الدين، وهذا إشارةٌ إلى صلاحية هذا القرآن الكريم لكلِّ زمانٍ ومكانٍ؛ أي: عالميَّة الإسلام وديمومته عبرَ العصور والأحقاب، تطمئِنُّ الأمَّة بها إلى أصل هذه العقيدة، فهي من الله، والله كافلها وحافظها في قلب نبيِّها، وهذا من رعايته - سبحانه - ومن كرامة هذا الدين عنده، وعظمة هذا الأمر في ميزانه.
وفي "هذا الموضع كما في كلِّ موضع يَرِدُ فيه وعدٌ جازم، أو ناموس دائم، يَرِدُ ما يفيد طلاقة المشيئة الإلهيَّة من وراء ذلك، وعدم تقيُّدها بقيدٍ ما ولو كان هذا القيد نابِعًا من وعدها وناموسها، فهي طليقةٌ وراء الوعد والناموس"[4].
ويَحرِص القرآن على تقرير هذه الحقيقة في كلِّ موضع، ومن ذلك ما جاء هنا: ﴿ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ﴾ [الأعلى: 7] استثناء مفرَّغ من أعمِّ المفاعيل؛ أي: لا تنسى ممَّا تقرَؤُه شيئًا من الأشياء إلاَّ ما شاء الله أن تَنساه.
قال الفرَّاء: وهو لم يشأ - سبحانه - أن ينسى محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - شيئًا، فهو الاحتِراس الذي يُقرِّر طلاقةَ المشيئة الإلهيَّة، بعد الوعد الصادق بأنَّه لا ينسى؛ ليظلَّ الأمرُ في إطار المشيئة الكبرى، ويظلَّ التطلُّع دائمًا إلى هذه المشيئة حتى فيما سلَف فيه وعد منها، ويظلَّ القلب معلقًا بمشيئة الله حيًّا بهذا التعلُّق أبدًا.
﴿ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ﴾ [الأعلى: 7]، هذه جملةٌ تعليليَّة لما سبق، فربُّك يا محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - يَعلَم الجهرَ وما يخفى، فسيتكفَّل بحفظِ المقروء في صدرك؛ لأنَّ ذلك يَرجِع إلى حكمةٍ يعلمها مَن يعلَم الظاهر والباطن، ويطَّلع على الأمر من جوانبه جميعًا، فيُقرِّر فيه ما تقتَضِيه حكمته المستندة إلى علمه بأطراف الأمر جميعًا.
الدرس الثالث: 8 - 15 بين التيسير والتذكير:
﴿ وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى ﴾ [الأعلى: 8] معطوفٌ على ﴿ سنقرئك ﴾، وما بينهما اعتراضٌ، قال مقاتل: أي: نهوِّن عليك عملَ الجنَّة، وقيل: نوفِّقك للطريقة التي هي أيسَرُ وأسهل، وقيل: للشريعة اليُسرَى، وهي الحنيفيَّة السهلة، وقيل: نُوَفِّقك للطريقة التي هي أيسرُ وأسهل، وقيل: للشريعة اليسرى، وهي الحنيفيَّة السهلة.
الدرس الرابع: 16 - 17 الآخِرة خير وأبقى:
وفي ظلِّ هذا المشهَد البياني القرآني مشهدُ النار الكبرى للأشقى، والنَّجاة والفَلاح لِمَن تزكَّى، يَعُود بالمُخاطَبِين إلى عِلَّة شقائهم، ومَنشَأ غفلتهم، وما يصرفهم عن التذكُّر والتطهُّر، والنجاة والفلاح، ويذهَب بهم إلى النار الكبرى والشقوة العظمى: ﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [الأعلى: 16 - 17].
الدرس الخامس: 18 - 19 عَراقة الدعوة ووحدة الرسالة:
وفي الختام تَجِيء الإشارةُ إلى قِدَم هذه الدعوة، وعَراقة منبتها، وامتِداد جذورها في شِعاب الزمن، وتوحُّد أصولها من وراء الزمان والمكان تمدُّ يدًا إلى إبراهيم - عليه السلام - وتمدُّ أخرى إلى سيِّدنا محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - مُرُورًا بسيِّدنا موسى - عليه السلام.
﴿ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ﴾ [الأعلى: 18 - 19].
وهذا التَّذيِيل للكلام فيه تنويهٌ بأنَّه من الكلام النافع الثابت في كتب إبراهيم وموسى - عليهما السلام - قصد به إبلاغ المشركين الذين كانوا يَعرِفون رسالةَ إبراهيم ورسالة موسى؛ ولذلك أكَّد هذا الخبر بـ"إن، ولام الابتداء"؛ لأنَّه مَسُوقٌ إلى المُنكِرين، هذا الذي ورَد في هذه السورة، وهو يتضمَّن أصول العقيدة الكبرى، هذا الحقُّ الأصيل العريق هو الذي في الصُّحُف الأولى.
هذا والله أعلم.
ــــــــــ
[1] "في ظلال القرآن"، سورة الأعلى.
[2] "التحرير و التنوير"، سورة الأعلى.