آيَاتٌ تُتلى ، وأحاديثٌ تُروى ، و مواعظٌ تُلقى ، ولكن تدخل من اليُمنى
وتخرج من اليُسرى ، لا يخشع لها قلب ولا تهتزّ لها نفس ،
ولا يسيلُ على إثرها دمع ...
لقد أثنى الله عزّ وجل في كتابه على البكّائين من خشية الله ،
وفي طاعة الله .. الأنقيَاء الأتقياء الذين لاتُسغفهم الكلمات للتعبير
عمّا يُخالج مشاعرهم من حب ربهم وتعظيمهم له ، وخشية و إجلال
فتفيض دموعهم قربة إلى الله وزُلفى :
" وإذا سمعوا ما أُنزل إلى الرسول ترى أعيُنهم تفيضُ من الدّمعِ ممّا
عرفوا من الحق "
وقال سبحانه جلّ في عُلاه : " أفمن هذا الحديث تعجبون * وتضحكون
ولاتبكون * وأنتم سامدون * فاسجُدوا لله واعبدوا "
إنّ من السبعة الذين يظلهُم الله في ظله يوم لا ظلّ إلا ظله :
" ورجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه" .. وخصّ البكاء في الخلوة
لأن الخلوة مدعاةً إلى قسوة القلب ، والجرأة على المعصية ، فإذا ما جاهد
الإنسان نفسه ومنعها عن المعصية ، واستشعر عظمة الله وفاضت
عيناه رهبة ورغبة استحق أن يُظلّه الله تحت ظله يوم لا ظلّ
إلا ظله ..
وقد قال عليه الصلاة والسلام : "عينان لا تمسهما النار عينٌ بكت من
خشية الله ، وعينٌ باتت تحرُس في سبيل الله " صحيح الترمذي.
وقال ذلك صلوات الله وسلامه عليه ، وهو أتقى الناس لله ، وأخشاهم
سراً وعلناً لله ، وأكثر الناس بكاءً من الله .. ونحن !!
مِنْ أَحْوَالِ البَكَّائِينْ ..
ثبت في الصّحيحينِ عن أبي مسعُود رضي الله عنه ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم
قال له : " اقرأ عليّ القرآن " فقال :أقرؤه عليك وعليك أُنزل ؟ قال : " إنّي أحبّ
أن اسمعه من غَيري "، فقرأ من سورة النّساء حتى بلَغَ قوله تعالى : " فكيف إّذا
جئنا من كل أمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً " فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : " حَسْبُك " فإذا عيناه تذرفان !
وثبت عنه صلى الله عليه وسلّم : أنّه كان إذا صلى سُمع لصدره أزيز كأزيز
المِرجَل من البكاء ، اي كصوتِ القدر إذا اشتدّ غليَانه..
إنّ هذه الدذموع الزكيّة النقية التي سالت من رسول الله صلى الله عليه وسلم
تُمثل إحساساً نبيلاً ومشَاركةً أسيفة للمحزونين والمكروبين ، وهي لا تتعارض
أبداً مع كونه عليه الصّلاة والسّلام مثلاً للشّجاعة ورباطَةِ الجَأش
والرّضَا بقضَاء الله وقدره ..
ولكنّ بُكاء المُصطفى الكريم في مواطن الرحمة والإشفاق ، ومن لايرحم
لايُرحم ، " مُحمّدٌ رسُولُ اللهِ والذينَ معه أشدّاءُ علَى الكُفّارِ رُحَمَاءُ بينهم "
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : قلت يارسول الله مالنّجاة ؟ مالنجاة؟
قال : " أمسك عليك لسَانك ، وليسَعك بيتُك ، وابكِ على خطيئتكِ "
يا غالي وياغالية .. هذه حالُ الرسول صلى الله عليه وسلم أخذها عنه الصحابة رضوان
الله عليهم ، فقد كان الربيعُ بن خيثم يبكي بُكاءً شديداً ، فلمّا رأت أمه
مايلقاه ولدها من البكاء نادته فقالت : ( يابنيّ ، لعلّك قتلتَ قتيلاً ؟ فقال :
نعم ياوالده ، قتلت قتيلاً ، فقالت : ومن هذا القتيل يابُنيّ نتحمّل إلى أهله
فيعفُونك ، والله لو علموا ماتلقى من البكاء والسّهر لرحموك ، فقال الربيع :
هي نفسي ياوالدتي .. هي نفسي !
في خاتمه المطاف :
لنتقِ الله في أنفُسنا ، ولنعلم أنّه لا بُد من القلق والبُكاء إمّا في
زاويَة التعبّد والطّاعة ، أو في هاوية الطّرد والإبعاد ، فإمّا أن
يُحرق قلبُكِ بنار الدّمعِ على التّقصير ، والشّوق إلى لقاء العليّ
القدير ، وإلا فاعلمي : " فليضحكُوا قليلاً وليبكُوا كثيراً جزاءً بما
كانوا يكسِبُون " ..
فانظر أخي إلى البكّائين الخاشعين ترينهم على شواطئ أنهار
الدّموع نزول ، فلو سِرتِ عن هَواكِ خطَوات ، لاحت لكِ الخيَام.
تذكروا أن هذا الدين وسطٌ بين الغالي فيه والجافي عنه ، ولا يُفهم
من الحث على البكاء والتباكي خشيةً لله أنه دعوة إلى الكدر ، ولا إلى
االرهبة ، ولا إلى مايقول أحدهم : ( ماضحكتُ أربعين سنة )..