عندما نزل مصعب بن عمير المدينة موفدا من لدن رسول الله صل الله عليه وسلم، ليعلم الأنصار الذين بايعوا الرسول على الاسلام، وليقيم بهم الصلاة، كان عباد بن بشر رضي الله عنه واحدا من الأبرار الذين فتح الله قلوبهم للخير، فأقبل على مجلس مصعب وأصغى اليه ثم بسط يمينه يبايعه على الاسلام، ومن يومئذ أخذ مكانه بين الأنصار الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه..
وانتقل النبي الى المدينة مهاجرا، بعد أن سبقه اليها المؤمنون بمكة. وبدأت الغزوات التي اصطدمت فيها قوى الخير والنور مع قوى الظلام والشر. وفي تلك المغازي كان عباد بن بشر في الصفوف الأولى يجاهد في سبيل الله متفانيا بشكل يبهر الألباب. ** ولعل هذه الواقعة التي نرويها الآن تكشف عن شيء من بطولة هذا المؤمن العظيم.. بعد أن فرغ رسول الله صل الله عليه وسلم والمسلمين من غزوة ذات الرقاع نزلوا مكانا يبيتون فيه، واختار الرسول صل الله عليه وسلم للحراسة نفرا من الصحابة يتناوبونها وكان منهم عمار بن ياسر وعباد بن بشر في نوبة واحدة. ورأى عباد صاحبه عمار مجهدا، فطلب منه أن ينام أول الليل على أن يقوم هو بالحراسة حتى يأخذ صاحبه من الراحة حظا يمكنه من استئناف الحراسة بعد أن يصحو. ورأى عباد أن المكان من حوله آمن، فلم لا يملأ وقته اذن بالصلاة، فيذهب بمثوبتها مع مثوبة الحراسة..؟! وقام يصلي.. واذ هو قائم يقرأ بعد فاتحة الكتاب سور من القرآن، احتدم عضده سهم فنزعه واستمر في صلاته..! ثم رماه المهاجم في ظلام الليل بسهم ثان نزعه وأنهى تلاوته.. ثم ركع، وسجد.. وكانت قواه قد بددها الاعياء والألم، فمدّ يمينه وهو ساجد الى صاحبه النائم جواره، وظل يهزه حتى استيقظ.. ثم قام من سجوده وتلا التشهد.. وأتم صلاته. وصحا عمار على كلماته المتهدجة المتعبة تقول له: " قم للحراسة مكاني فقد أصبت". ووثب عمار محدثا ضجة وهرولة أخافت المتسللين، ففرّوا ثم التفت الى عباد وقال له: " سبحان الله.. هلا أيقظتني أوّل ما رميت"؟؟ فأجابه عباد: " كنت أتلو في صلاتي آيات من القرآن ملأت نفسي روعة فلم أحب أن أقطعها. ووالله، لولا أن أضيع ثغرا أمرني الرسول بحفظه، لآثرت الموت على أن أقطع تلك الآيات التي كنت أتلوها"..!! ** كان عباد شديد الولاء والحب لله، ولرسوله ولدينه.. وكان هذا الولاء يستغرق حياته كلها وحسه كله. ومنذ سمع النبي عليه الصلاة والسلام يقول مخاطبا الأنصار الذين هو منهم: " يا معشر الأنصار.. أنتم الشعار، والناس الدثار.. فلا أوتيّن من قبلكم". نقول منذ سمع عباد هذه الكلمات من رسوله، ومعلمه، وهاديه الى الله، وهو يبذل روحه وماله وحياته في سبيل الله وفي سبيل رسوله.. في مواطن التضحية والموت، يجيء دوما أولا.. وفي مواطن الغنيمة والأخذ، يبحث عنه أصحابه في جهد ومشقة حتى يجدوه..! وهو دائما: عابد، تستغرقه العبادة.. بطل، تستغرقه البطولة.. جواد، يستغرقه الجود.. مؤمن قوي نذر حياته لقضية الايمان..!! وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: " ثلاثة من الأنصار لم يجاوزهم في الفضل أحد: " سعد بن معاذ.. وأسيد بن خضير.. وعبّاد بن بشر... وعرف المسلمون الأوائل عبادا بأنه الرجل الذي معه نور من الله.. فقد كانت بصيرته المجلوّة المضاءة تهتدي الى مواطن الخير واليقين في غير بحث أو عناء.. بل ذهب ايمان اخوانه بنوره الى الحد الذي أسبغوا عليه في صورة الحس والمادة، فأجمعوا على ان عبادا كان اذا مشى في الظلام انبعثت منه أطياف نور وضوء، تضيء له الطريق.. وفي حروب الردة، بعد وفاة الرسول عليه الصلاة السلام، حمل عباد مسؤولياته في استبسال منقطع النظير.. وفي موقعة اليمامة التي واجه المسلمون فيها جيشا من أقسى وأمهر الجيوش تحت قيادة مسيلمة الكذاب أحسّ عبّاد بالخطر الذي يتهدد الاسلام.. وكانت تضحيته وعنفوانه يتشكلان وفق المهام التي يلقيها عليه ايمانه، ويرتفعان الى مستوى احساسه بالخطر ارتفاعا يجعل منه فدائيا لا يحرص على غير الموت والشهادة.. وقبل أن تبدأ معركة اليمامة بيوم، رأى في منامه رؤيا لم تلبث أن فسرت مع شمس النهار، وفوق أرض المعركة الهائلة الضارية التي خاضها المسلمون.. ولندع صحابيا جليلا هو أبو سعيد الخدري رضي الله عنه يقص علينا الرؤيا التي رآها عبّاد وتفسيره لها، ثم موقفه الباهر في القتال الذي انتهى باستشهاده.. يقول أبو سعيد: " قال لي عباد بن بشر يا أبا سعيد رأيت الليلة، كأن السماء قد فرجت لي، ثم أطبقت عليّ.. واني لأراها ان شاء الله الشهادة..!! فقلت له: خيرا والله رأيت.. واني لأنظر اليه يوم اليمامة، وانه ليصيح بالأنصار: احطموا جفون السيوف، وتميزوا من الناس.. فسارع اليه أربعمائة رجل، كلهم من الأنصار، حتى انتهوا الى باب الحديقة، فقاتلوا أشد القتال.. واستشهد عباد بن بشر رحمه الله.. ورأيت في وجهه ضربا كثيرا، وما عرفته الا بعلامة كانت في جسده..
رضي الله عنه وأرضاه
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك