تمثل السيرة النبوية تيارًا متصلًا غير محدود، فهي زاخرة بإشارات مرشدة للمسلمين، مع وقفات في شأن الأحكام الشرعية والحقوق المدنية.
ففى سيرته وقف "صلى الله عليه وسلم" مواقف في شأن الأمر [السلطة والحكم] من بعده كحق جعله الله سبحانه وتعالى شورى بين المسلمين، ومن تلك المواقف موقفه مع قبيلة بنى عامر بن صعصعة.
فقبل ثلاث سنوات من الهجرة، وبعد وفاة عمه أبي طالب، وأمنا خديجة "عليها السلام"، وعقب عودة الرسول "صلى الله عليه وسلم" من الطائف، وقد يئس من خير ثقيف، ودخوله مكة تحت حماية المطعم بن عدي، وهو على شركه، وفى أحلك لحظات الدعوة عرض الرسول "صلى الله عليه وسلم" نفسه على قبيلة بنى عامر بن صعصعة، وجاء في سيرة ابن هشام:
قال ابن اسحق: وحدثني الزهري أنه أتى بنى عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب.
ثم قال له "بحيرة": أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟
قال "صلى الله عليه وسلم": الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء
فقال له "بحيرة": أتهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا لا حاجة لنا بأمرك؛
فأبوا عليه. "[2]
وردت هذه الحادثة أيضا في تاريخ الطبري، وابن الأثير، وأشير للمقابلة في طبقات ابن سعد، وتاريخ ابن خلدون، ومسندة للزهري، الذي قال فيه ابن القيم في كتابه "إغاثة اللهفان" ص256 طبعة مكتبة الصفا. "قد تفرد الزهري بنحو ستين حديثًا لم يروها غيره، وعملت بها الأمة، ولم يردوها بتفرده".
احتوت هذه الحادثة على مسألتين:
1- حكمة سياسية، سبق التحدث عنها.
2- حكم شرعي، أرجو أن أتمكن من تفصيله.
أما الحكم الشرعي:فها هنا عرض مغر في أصعب ظرف مرت به الدعوة، وكانت المعاناة واضحة في حديث الرسول "صلى الله عليه وسلم" [[ما نالت منى قريش شيئًا أكرهه حتى مات أبوطالب]][3].
وكذلك كان دعاؤه في الطائف [[اللهم أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين، وأنت ربى، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك على غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل عليّ سخطك لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك]][4].
في هذا الظرف الصعب والدقيق الذي فقد فيه الرسول "صلى الله عليه وسلم" حماية عمه أبوطالب والمساندة المعنوية المتمثلة في أمنا خديجة عليها السلام، والفرس قد أحاطوا بأرض أبناء معد بن عدنان، مما اضطره إلى إلجاء نصف المسلمين وقتها إلى الحبشة، ووجوده بمكة مرتبط بإجارة المطعم بن عدي وهو مشرك. تعرض عليه بيعة ونصرة ومساندة قبيلة كاملة بأرضها وفرسانها ومالها، ومن رجل ينتهي نسبه إلى مكون القبيلة ويرفض الرسول "صلى الله عليه وسلم" في حزم، ودون تردد أو تمهل مثبتًا بذالك حقًا لله سبحانه وتعالى لا مجال للتهاون فيه.
ثم نزلت الآية راسمة في إبداع إلهي صفة إدارة المجتمع المسلم من بعد الرسول "صلى الله عليه وسلم" قال تعالى: [[وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ]][5]، وتعني إمارة المسلمين شورى بينهم.. حيث إن [أمرهم] تعني كل شئون إمارتهم وسياستها و[بينهم] تعني كلهم، وهذا يمثل حكما إلهيا بحق المسلمين في سلطتهم لا فكاك منه، ولو كان الثمن نصرة الدعوة في ظرف لم تواجه أصعب ولا أحلك منه.
هذا ولم يتهاون الرسول "صلى الله عليه وسلم" في هذا الحق إلى أن التحق بالرفيق الأعلى، وهو آخر الأنبياء والمرسلين و إمامهم، مؤكدًا حكمًا شرعيًا قضى بحق لا سلطان لبشر عليه ومسايرًا لمنطق الواقع وحركة التاريخ إلى يومنا هذا.
ثم أتت السنة النبوية موضحه الحد الأدنى لمجتمع إمارة المسلمين في قوله "صلى الله عليه وسلم": [[إذا كنتم ثلاثة فأمروا أحدكم وتوكلوا على الله وتوجهوا]][6].
ومعلوم أن الرسول "صلى الله عليه وسلم" أوتى مجامع الكلم، فلم يقل فليأتمر، وإنما قال فأمروا، ودون وضع أي شرط لمظهر هذه الإمارة، فلو اجتمع ثلاث نسوة مسلمات في مدينه أو قرية أو موقع جغرافي، فعليهن تكوين إمارة - قابلة للانصهار في إمارة المسلمين العامة- يصلن إلى صلاحياتها في حدود الممكن بالشورى، هذا في الحد الأدنى للمجتمع المسلم، ودون حد أعلى لهذا المجتمع، ودون التقييد بغير الشورى في وضع منهج أو دستور للإمارة، واختيار أولي الأمر المأمور بطاعتهم في الآية قال تعالى: [[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا]][7]
ولم يقتصر بيان شأن الأمر بآيه سورة الشورى وحدها، وإنما ضرب لنا المثل في (سورة الجاثية) بما كان بين بنى إسرائيل وكيف أنهم اختلفوا في الأمر بعدما جاءهم العلم بغيا بينهم قال تعالى: [[وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ]][8].
وهذه الآية توضح لنا أن مخالفة فروض المولى سبحانه وتعالى في شأن الأمر كانت بغيًا من بنى إسرائيل.
وفى نفس السورة نجد التفويض للرسول "صلى الله عليه وسلم" بالأمر في الآية: [[ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]][9].
مما تقدم نجد أن القرآن الكريم والسنة النبوية قد وجها اهتمامًا وصل درجة عالية من الدقة والحزم لتأسيس معيار إدارة مجتمع المسلمين من بعد الرسول "صلى الله عليه وسلم" وهو الشورى، وإن التحريف في شأن الشورى نتيجته البغي، مما يؤدى إلى تفكيك الدولة، وإفساد المجتمع في أي واقع سياسي، ومعلوم إن قبول العمل في الإسلام معياره الإخلاص، وموافقة الكتاب والسنة، ولا اجتهاد مع نص في فتوى تشريعية.
وقد أطلق الشيخ محمد الغزالي فتوى داوية في حديثة [لمجلة الأمة – قطر] عدد رمضان 1404 " القول بأن الشورى لا تلزم أحدًا كلام باطل، ولا أدري من أين جاء؟".
ومن قبله قالها الإمام مالك بن أنس حين استفتاه أهل المدينة في الخروج مع محمد بن عبد الله بن الحسن فقال: "إنما بايعتم مكرهين وليس على المكره يمين "[10].
ورفض الرسول "صلى الله عليه وسلم" إعطاء الأمر من بعده حين هدده عامر بن الطفيل وقال له: "أوليست لي؟ لأملأنها عليك خيلًا ورجالًا "[11].
وسأل الرسول "صلى الله عليه وسلم" ربه أن يكفيه عامر بن الطفيل، فأصيب عامر بالطاعون، ومات في سفرته تلك.
وكذلك رفض "صلى الله عليه وسلم" أن يوصي بالأمر من بعده إلى أهل بيته، وهو الذي أمر المسلمين بالدعاء لهم في كل صلاة " اللهم صل على محمد وعلى آل محمد.. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد "[12].
عليه فالشورى ملزمة في الأمر، بنصوص الكتاب والسنة وأقوال كبار العلماء قديمًا وحديثًا، وشهادات الواقع المعاش.
وتكون كيفيتها بالشورى أيضا، فللفهم وجوه وفي النظر الصحيح سعة.
فالتزم بها أخي المسلم.
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك