ذكر عز وجل في الآية السابقة من نِعَمِ ربوبيته عز وجل للناس نعمةَ خلقه لهم، ثم أَتْبع ذلك بذكر جعل الأرض لهم فراشًا، والسماء بناءً، وإنزال الماء من السماء، وإخراج الثمرات به رزقًا لهم، مذكرًا لهم بوجوب عبادته، وناهيًا لهم عن اتخاذ الأنداد معه؛ لأنه الرب الخالق الرازق سبحانه، كما قال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [غافر: 64].
قوله: ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا ﴾ "الذي" صفة ثانية لـ"رب"، و"جعل" بمعنى خلق أو صير، وهو من الجعل الكوني، فمن نعم ربوبيته عز وجل لكم أيها الناس أنْ خلَقَ لكم الأرض وصيرها لكم فراشًا.
﴿ وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ﴾؛ أي: سقفًا كالقبة على الأرض، وأودع فيها الشمس والقمر والنجوم لينتفعوا بها، قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا ﴾ [الأنبياء: 32]، وقال تعالى: ﴿ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ﴾ [النبأ: 12].
﴿ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ ﴾ المراد بالسماء العلو؛ أي: وأنزل من السحاب الذي في السماء؛ أي: في العلو بين السماء والأرض، كما قال تعالى: ﴿ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [البقرة: 164].
﴿ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا ﴾؛ أي: فلا تصيروا ﴿ لِلَّهِ أَنْدَادًا ﴾الأنداد: جمع ند، وهو العدل والنظير والشبيه والمثيل؛ أي: فلا تصيروا لله نظراء وأشباهًا وشركاءَ في العبادة، والنهيُ للتحريم، بل يفيد أشد التحريم وأعظَمَه؛ لأن الشرك أعظم الذنوب وأظلَمُ الظلم، قال تعالى فيما حكاه عن لقمان أنه قال لابنه: ﴿ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13].
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الذنب أعظم عند الله؟ قال: ((أن تجعل لله ندًّا وقد خلَقَك))[1].
﴿ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ توبيخ لهم، والجملة حالية؛ أي: والحال أنكم تعلمون أن الله ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم، وجعل الأرض لكم فراشًا، والسماء بناءً، وأنزل المطر من السماء، وأخرج به من الثمرات رزقًا لكم، فربوبيته لكم وإنعامه عليكم بما ذكر وغيره يستوجب أن تعبدوه وحده، كما قال تعالى: ﴿ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الروم: 40].
وذلك لأن المشركين يُقِرُّونَ بربوبية الله عز وجل، وأنه الخالق الرازق، كما قال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [الزخرف: 87]، وقال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [العنكبوت: 61]، وقال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [لقمان: 25، الزمر: 38]، وقال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ﴾ [الزخرف: 9]، وقال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [العنكبوت: 63]، لكنهم ينكرون توحيد الألوهية والعبادة.
وإذا كانوا يُقرُّون بربوبية الله عز وجل، فمِن لازمِ ذلك أن يُقِروا بألوهيته فيعبدوه وحده لا شريك له، وهو أوضح دليل عقليٍّ على وحدانية الله عز وجل وتفرُّدِه بالألوهية؛ لأن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية، كما أن توحيد الألوهية يتضمن توحيد الربوبية.
[1] أخرجه البخاري في التفسير (4477)، ومسلم في الإيمان (86)، وأبو داود في الطلاق (2310)، والنسائي في تحريم الدم (4013)، والترمذي في التفسير (3182).
الألوكة
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك