وإذا سالك عبادي عني فإني قريب
مضى رمضان وبقي القرآن، انقضى رمضان وبقي الإحسان، ذهب رمضان وبقي للصوَّامين القوامين أجر الرحمن، مضى رمضان وبقي الدعاء وقرب الملك الديان: ﴿
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]!
الدعاء سهام اللَّيل يُطلِقها الراكعون الساجدون، والدعاء حبلٌ ممدود بين السماء والأرض، يعرفه حقَّ المعرفة المؤمنون الخاشعون، هو الرِّبح للمخلصين بلا ثمن، وهو المغنَم للقانتين بلا عناء.
الدعاء مخُّ العبادة، وباب السَّعادة، وسبب الرِّيادة! فإذا ضاعت الأسباب لم يبقَ إلا سبب واحد،
وإذا غُلقت الأبواب لم يبق إلا باب واحد،
وإذا تعددت الأرباب لم يبق لنا إلا ربٌّ واحد هو رب الأرض والسماء! ﴿
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ﴾ [الزخرف: 84].
الدعاء علامةٌ على تحقيق الإيمان وتمكُّنه في القلب؛ لأن الداعيَ يتوجَّه إلى ربه ويدعوه؛ فهو يوقن بأنه موجود، يسمع ويقدر، ويفعل ما يريد، وهنا يَزداد يقينُ الداعي وخوفُه من الله، وإقراره بالتوحيد الخالص لله.
في آخر
آيات الصيام يقول الله تعالى: ﴿
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186].
الله قريبٌ من عبده، فهل العبد
قريب من ربِّه؟! إنها بُشرَيات القرآن ونفحات الرحمن لأمة المصطَفى العدنان عليه الصلاة والسلام!
وهذه بشرى أخرى؛ الإجابة الفورية للأمة المحمدية، دون واسطة أو رشوة أو مصلحة، تعالى الله الكَبير المتعال؛ ﴿
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60].
لذلك كان التحذير: ﴿
قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ﴾ [الفرقان: 77].
الدعاء هو التجارة الرابحة، الذي يَستوي فيه الفقراء والأغنياء، لكن عِظَم الرِّبح يكون على قدر حضور القلب وانطِراحه بين يدَي الله.
الدعاء طريق الفوز والفلاح في الآخرة، وهو السبب الرئيسي للسعادة في الدنيا والآخرة، بل هو الطريق لانشراح الصدر وسلامته وطُهره.
وخزائن الله مَلْأى، يده سحَّاء تنفق الليل والنهار، وملكه لا يَنقُص؛ جاء في الحديث القدسي: ((يا عبادي، لو أن أوَّلكم وآخرِكَم وإنسكم وجنَّكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيتُ كل إنسان مسألته ما نقَص ذلك مما عندي إلاَّ كما يَنقُص المخيطُ إذا أدخل البحر)).
والدعاء صفة الملائكة عليهم السلام؛ لأن أهم وظائفهم التسبيح والاستغفار، والدعاء للمؤمنين، وصدق الله العظيم: ﴿
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [غافر: 7].
والدعاء صفة الرسل عليهم الصلاة والسلام جميعًا؛ فقد دعا آدم ربه أن يغفر ذنبه، فغفر له، ودعا نوحٌ عليه الصلاة والسلام أن ينصره الله فقال: ﴿
أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ﴾ [القمر: 10]، فنصَره الله على قومه وأهلكَهم بالطوفان، ودعا إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام حين أُضرِمَت عليه النيران فقال: "حسبي الله ونعم الوكيل"، فقال الله للنار: ﴿
كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 69].
ودَعا يونس عليه الصلاة والسلام ربَّه لما ابتلَعه الحوتُ فقال: ﴿
لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 87]، فاستجاب الله دُعاءه ونجَّاه من الغم، وكذلك ينجي المؤمنين.
ودعا سليمانُ عليه الصلاة والسلام فقال: ﴿
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ ﴾ [ص: 35]، فآتاه الله ما طلب.
ودعا موسى عليه الصلاة والسلام عندما أدرَكَه فرعونُ وقومُه، فاستجاب الله له، وفَلَق البحر له، وأغرَق فرعونَ وقومه.
ودعا محمدٌ عليه الصلاة والسلام في مواقفَ عديدة، فاستجاب الله دعاءه وأظهَر أمرَه، ونصَره على القوم الكافرين، وقد ذكر الله ذلك في قصة الهجرة ومعركة بدر ويوم الأحزاب، وغيرها.
والدعاء صفة المؤمنين الخاشعين، والأولياء المتقين، يَدعون ربَّهم ليل نهار فيتحقَّق مطلوبُهم، وينالون مرغوبَهم، ويفرج الله همومهم، وينفِّس مكروبهم، وهم بذلك يتقربون إلى الله ويتعبدون بالدعاء؛ فهو سلاحهم، وهو سُلوتهم في خَلوتهم؛ لأنهم يَعلمون فضل الله عليهم، ويعلمون حاجتهم إلى خالقهم، وضعْفَ أحوالهم، وتمام غنى خالقهم ورازقِهم، فهم لا يَستغنون عن ربهم طرفة عين.
وإنَّ أحدَكم لَيَغضَبُ إن سُئل، والله يَغضب إذا لم يُسأل؛ ﴿
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ [البقرة: 186]، وليُحضِر الدَّاعي قلبَه، وانكسارَه وذُلَّه، وخشوعَه وخضوعه بين يدَي ربِّه.
أوقات الاستجابة:
في آخر الليل، وآخر النهار، وعند الأذان، وبين الأذان والإقامة، وعند صعود الإمام لخطبة الجمعة حتى انتهاء الصلاة، وأدبار الصلوات، وآخر ساعة من يوم الجمعة، وعند نزول الغيث، وعند رؤية الكعبة، وفي أي مكان لم تطَأْه قدمُك من قبل!
ولا يَستعجل العبدُ إجابة الدعاء؛ لأنَّ الله يدَّخر لك الأصلح والأنفع؛ ((ما مِن رجلٍ يَدعو بدعاء إلا استجاب له؛ فإما أن يُعجَّل له في الدنيا، وإما أن يؤخَّر له في الآخرة، وإما أن يُكفَّر عنه من ذنوبه بقدرِ ما دعا، ما لم يَدعُ بإثم أو قطيعةِ رحم، أو يَستعجل؛ يقول: دَعوتُ ربي فما استجاب لي))؛ رواه الترمذيُّ عن أبي هريرة رضي الله عنه.
يجب أن يكون قُربك من الله بالدعاء في القوَّة والضعف، في اليُسر والعُسر، في الصحة والمرض، في الكدر والصفاء، في الشِّدة والرخاء.
كيف؟
((مَن سرَّه أن يَستجيب الله له عند الشدائد والكُرب فليُكثِر الدعاء في الرخاء))؛ رواه الترمذيُّ والحاكم.
الدعاء يغذِّي حب الله لعباده؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يجتمع ملأٌ فيَدعو بعضهم ويؤمِّن بعضهم إلا أحبهم الله))؛ رواه الطبراني والحاكم.
وهذه فئات لا تُردُّ دعوتهم؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا تُردُّ دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يُفطر، ودعوة المظلوم يَرفعها الله فوق الغمام وتُفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب تبارك وتعالى: وعزتي لأنصُرنَّك ولو بعد حين))؛ رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.
استنبط بعضُ العلماء من آية الدعاء بين آيات الصيام أنَّ مِن أكبر ثمرات الصيام أن يَكون المؤمن الصائم القائمُ مستجابَ الدعوة.
ولكن هذه الآية تبين أن للدعاءِ شروطًا؛ قال تعالى: ﴿
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 186].
خواطرك لا تَخفى على الله؛ لذلك قال الله تعالى عن سيدنا زكريا: ﴿
إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ﴾ [مريم: 3]؛ فتجد إنسانًا يَنوي مجرَّد نية مِن داخله دون أن تتحرك شفَتاه أن يحج أو يبني مسجدًا أو يتزوج، فيجيبه الله لإخلاصه وتقواه، وقُربِه من الله وقربِ الله منه، ﴿
وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾ [الحديد: 4].
قال العلماء في تفسير هذه الآية: هو معَكم بعِلمه، ولكن هذه المعيَّة العامة، أما المعية الخاصة فهو مَع المؤمنين، مع الصادقين، مع المتقين، مع المتطهِّرين، مع التائبين، هذه معية خاصة، وتَعني أنه يوفِّقك، ويحفظك، وينصرك، ويرعاك، ويستجيب لك، هذه معية خاصة: ﴿
إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ ﴾ [المائدة: 12].
المعية العامة غير مَشروطة، الله مع الكافر، مع الملحِد، مع الفاسق، مع العاصي... معَهم بعِلمه، أما المعية الخاصة فمشروطة، أنت حينَما تؤمن فالله معَك بالتأييد وبالنصر، وبالحفظِ وبالتوفيق: ﴿
وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ﴾ [هود: 88].
لا يُحقَّق هدفٌ على وجه الأرض صغر أو كبر إلا بتوفيق الله عز وجل، إذًا: ﴿
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 186].
الدعاء سلاح المؤمن، أنت بالدعاء أقوى إنسان، قبل أن تُقبل على عمل: يا رب، إني تبرأتُ من حولي وقوتي، والتجأتُ إلى حولك وقوتك، يا ذا القوة المتين.
قبل أن تُقبل على مشروع، قبل أن تقبل على سفر، قبل أن تُقدم على عمل كبير، اسأل الله التوفيق، اسأل الله الحفظ، الدعاء سلاح المؤمن، النبيُّ عليه الصلاة والسلام يقول: ((إن الله تعالى يحب الملحِّين في الدعاء))؛ رواه البيهقيُّ عن عائشة، اسأل الله حتى شِسع نعلك إذا انقطَع، ومِلحَ طعامك إذا غاب!
كيف؟
((ليسأل أحدُكم ربَّه حاجته كلَّها، حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع))؛ الترمذي وابن حبان في صحيحه عن أنس.
و((إن الله يحب من العبد أن يسأله مِلح طعامه، إن الله يحب من العبد أن يسأله حاجتَه كلَّها))، ((مَن لا يدعوني أغضَب عليه))؛ العسكري في المواعظ عن أبي هريرة.
المؤمن كلما تذلَّل في أعتاب الله أعزَّه الله، وغير المؤمن كلما استنكف أن يعبد الله، وأن يدعوه، وتأبَّى - أذله الله؛ فبطولتك أن تتذلل لله في الدعاء، عندئذٍ يعزُّك الله عز وجل.
((يا داود، لو يعلم المعرضون انتظاري لهم، وشوقي إلى ترك مَعاصيهم، لتقطَّعَت أوصالهم من حبي، ولَماتوا شوقًا إليَّ، هذه إرادتي بالمعرضين فكيف بالمؤمنين؟!)).
من لوازم الدعاء الإيمانُ بأن الله موجود وسيحاسب خلْقَه.
ومن لوازم الدعاء أن تؤمن أن الله موجود، وبأنه يسمعك، ويراك، ويعلم ما تُخفي، وهو قادر على تَلبية دعائك، والله عز وجل يحبُّ أن يرحمك، هذه شروط الدعاء.
شروط الدعاء أن تؤمن، وأن تستجيب، وأن تخلص؛ ﴿
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ [البقرة: 186]؛ أي: إذا دعاني حقيقة وإخلاصًا، ﴿
فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186].
إيمانٌ بالله، واستجابةٌ لأمره، ثم إخلاص في الدعاء.
قال العلماء: إن الله يستجيب الدعاء لشخصين، ولو لم يَكونا أهلاً للدعاء!
كيف؟
أولاً: المظلوم؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافرًا؛ فإنها ليس دونها حجاب))؛ أحمد في مسنده، وأبو يعلى في مسنده.
ثانيًا: المضطر.
المظلوم يَستجيب الله له لا لأهليته للدعاء، ولكن بعدل الله، والمضطرُّ يَستجيب الله له لا لأهليته للدعاء، ولكن برحمة الله، فالله يَرحم المضطرَّ، ويستجيب للمظلوم؛ الأول برحمته، والثاني بعدله؛ لذلك مهما يكن وضعُك مع الله فادع الله، ولن يُخيب الله أملك، وما أكثر المظلومين والمضطرِّين! في ليالي رمضان يجب أن يتوجَّهوا إلى مَن لا تُحجب أبوابه؛ في رمضان وغير رمضان الله قريبٌ منهم، يجيب سؤلهم، ويسمع طلبهم، ويغير حالهم؛ فهو تعالى
قريب منهم؛ ﴿
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ [البقرة: 186].
اللهم افتح لنا الأبواب، وهيئ لنا الأسباب، ووفِّقنا لخير الدعاء وخيرِ المسألة!
الالوكة