أي: قال اليهود والنصارى والمشركون ﴿ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ﴾ أي: جعل الله له ولداً، فقالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقال مشركو العرب: الملائكة بنات الله.
كما قال تعالى عن اليهود والنصارى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [التوبة: 30]، وقال تعالى عن المشركين: ﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ ﴾ [النحل: 57].
وعن ابن عباس- رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي: فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي: فقوله: لي ولد، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولداً"[1].
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أحد أصبر من الله على أذى يسمعه، إنهم يجعلون لله ندّاً، ويجعلون لله ولداً، وهو يرزقهم ويعافيهم"[2].
"سبحانه" تنزيهاً لنفسه عز وجل عن الولد وعن السبب المقتضي للولد، لأنه عز وجل الغني بذاته، كما قال تعالى: ﴿ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ [يونس: 68]، وقال تعالى: ﴿ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ ﴾ [المؤمنون: 91]، وقال تعالى حكاية لقول الجن: ﴿ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا ﴾ [الجن: 3].
نزه عز وجل نفسه عن الولد ثم أبطل دعوى من ادعى ذلك ببيان عظمته وغناه عن خلقه وعدم حاجته إلى ولد، فله ما في السموات والأرض، كل له قانتون، وخلق السموات والأرض وأبدعهما على غير مثال سابق، وله القضاء التام والأمر النافذ.
قوله: ﴿ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ "بل": للإضراب وإبطال قولهم، وإثبات غناه عز وجل عن الولد وعن الخلق كلهم، "له": اللام للملك، وقدم الخبر "له" للاختصاص، و"ما": اسم موصول يفيد العموم، أي: بل له وحده جميع الذي في السموات والأرض من المخلوقات والعوالم ملكاً وخلقاً وتدبيراً.
﴿ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ﴾ أي: كل من هذه المخلوقات ﴿ لَهُ قَانِتُونَ ﴾ قدم الخبر لإفادة الحصر والاختصاص، أي: له وحده.
وفي قوله: ﴿ قَانِتُونَ ﴾ تغليب لجانب العقلاء تشريفاً لهم؛ لأن منهم الملائكة والرسل والأنبياء والصالحون.
﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ "بديع" على وزن "فعيل" بمعنى "مفعل" أي: مبدع، أي: مبدع السموات والأرض وخالقهما وما فيهما على غير مثال سابق.
وهذا من الأدلة على استحالة أن يكون له ولد، كما قال تعالى في سورة الأنعام: ﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الأنعام: 101].
فرتب عز وجل نفي الولد والصاحبة على قوله: ﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾.
﴿ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا ﴾ الواو: عاطفة، و"إذا": ظرفية شرطية، و"قضى": فعل الشرط؛ أي: وإذا أراد أمراً، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82].
"والأمر" واحد الأمور، وهو الشأن والشيء، كما قال تعالى في الآية الثانية: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾.
﴿ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾: جملة جواب الشرط "إذا" وقرن بالفاء؛ لأنه جملة اسمية، قرأ ابن عامر بنصب ﴿ فَيَكُونُ﴾ جواباً للأمر "كن" فتكون الفاء للسببية، أي: فبسبب ذلك يكون، وقرأ الباقون برفع ﴿ فَيَكُونُ﴾ وتكون الفاء للاستئناف، أي: فهو يكون.
و"إنما": أداة حصر، أي: لا يقول له إلا "كن" مرة واحدة فيكون.
و"كان" هنا تامة، أي: فيحدث ويوجد ذلك الأمر ويقع، أي: أن أمره عز وجل تام نافذ واقع بلا تأخير، فلا يعجزه أو يستعصي عليه شيء.
فالذي أبدع السموات والأرض على غير مثال سابق، والذي إذا أراد أمراً إنما يقول له كن فيكون قادر على خلق ولد بلا أب، وفي هذا رد على النصارى في زعمهم أن المسيح ابن الله؛ لأنه خلق بلا أب، كما قال تعالى ردًّا عليهم: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59]، فليس خلق عيسى من أم بلا أب بموجب كونه ابناً لله تعالى.
الفوائد والأحكام:
1- أنه لا أحد أشد ظلماً وتعدياً ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها حسيًّا ومعنويًّا؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا ﴾ [البقرة: 114].
وفي المقابل: إن من أعدل الناس وأعظمهم إيماناً من سعى في عمارة المساجد حسيًّا ومعنويًّا، كما قال تعالى﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [التوبة: 18]، وقال تعالى: ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ ﴾ [النور: 36، 37].
2- أن الذنوب والمعاصي تتفاوت فبعضها أعظم من بعض؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ ﴾ الآية.
3- أن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه تخريب وإفساد لها.
4- عدم جواز التحجر وحجز الأماكن في المساجد، لما في ذلك من منع الناس من الصلاة في هذه الأماكن، ومن الجلوس للذكر والقراءة فيها، ولأنها أيضاً مساجد الله والناس فيها سواء.
5- تشريف الله عز وجل للمساجد؛ لأن الله عز وجل أضافها إليه فقال: ﴿ مَسَاجِدَ اللَّهِ ﴾.
7- وجوب تطهير المساجد مما يخل بإخلاص العبادة لله فيها كالقبور والصور ونحو ذلك؛ لأنها مساجد الله، كما قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴾ [الجن: 18].
8- البشارة للمؤمنين ووعدهم بأن العاقبة لهم، والوعيد للذين يمنعون مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ويسعون في خرابها، أن الله سيذلهم ويخزيهم، ويمنعون هم من دخولها؛ لقوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ ﴾ [البقرة: 114].
وقد حقق الله ذلك، فحرم الله عز وجل دخول المشركين والكفار المساجد، وأوجب على المؤمنين منعهم من ذلك.
9- الوعيد الشديد للذين يمنعون ذكر الله في المساجد ويسعون في خرابها بالخزي والذل والعار في الدنيا، والعذاب العظيم في الآخرة؛ لشدة ظلمهم؛ لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: 33] فجمع لهم بين العذاب العاجل والعذاب الآجل.
10- أن العز كل العز في طاعة الله- تعالى- وأن الذل كل الذل في معصية الله- تعالى.
11- إثبات الدار الآخرة وما فيها من الجزاء؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾.
12- أن عذاب الآخرة أعظم من عذاب الدنيا؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾.
14- أن لله عز وجل أن يوجه عباده في العبادة إلى ما شاء من مشرق أو مغرب أو غير ذلك؛ لأن له المشرق والمغرب والملك كله، والتدبير والتصرف في ذلك.
15- أن المصلي إلى القبلة أينما توجه في صلاته، فهو متوجه إلى الله سواء توجه إلى المشرق أو إلى المغرب أو غير ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 115].
17- إثبات صفة الواسع لله عز وجل لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾، فهو واسع في مغفرته ورحمته وجوده وكرمه وعفوه وحلمه، وفي جميع صفاته، سبحانه وتعالى.
18- إثبات صفة العلم الواسع لله عز وجل لقوله تعالى: ﴿ عَلِيمٌ ﴾.
19- جرأة أهل الكفر والشرك من اليهود والنصارى ومشركي العرب على الله بنسبتهم الولد إليه، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ﴾.
20- تنزيه الله عز وجل نفسه عما وصفه به الظالمون من اتخاذ الولد؛ لقوله تعالى: ﴿ سُبْحَانَهُ ﴾، ووجوب تنزيهه عن ذلك، وعن كل نقص.
21- إثبات استغناء الله عز وجل بذاته استغناءً تاماً عن الولد وعن الخلق كلهم؛ لقوله تعالى: ﴿ لْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾.
22- تفرد الله عز وجل وحده بملك ما في السموات والأرض؛ لقوله تعالى: ﴿ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾.
23- سعة وعموم ملك الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾.
24- انقياد كل ما في السموات والأرض كوناً لله عز وجل وخضوعهم له؛ لقوله تعالى: ﴿ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ﴾.
25- قدرة الله عز وجل التامة العظيمة في خلق السموات والأرض، وهذه المخلوقات العظيمة العجيبة على غير مثال سابق؛ لقوله تعالى: ﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾.
26- نفوذ أمر الله وقضائه الكوني، وانقياد كل شيء له بلا تأخير، فلا يعجزه شيء أو يمتنع عليه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.
27- إثبات القول والكلام لله عز وجل بحرف وصوت، وفهم كل شيء لأمره وقوله حتى الجمادات؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.
28- إثبات أن الله عز وجل يخلق الخلق بكلامه؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.
قال ابن خزيمة[3]: "وعلمنا أن الله جلَّ وعلا في محكم تنزيله أنه يخلق الخلق بكلامه وقوله: ﴿ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [النحل: 40]. فأعلمنا جل وعلا أنه يكون كل مكون من خلقه بقوله: ﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾، وقوله: ﴿ كُنْ ﴾ هو كلامه الذي به يكون الخلق، وكلامه عز وجل الذي به يكون الخلق غير الخلق الذي يكون مكوناً بكلامه، فافهم ولا تغلط ولا تغالط".
وقال ابن تيمية[4]: "وقد نطقت الكتب بأن الله يخلق الأشياء بكلامه، فيقول لها: ﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ هكذا في القرآن والتوراة وغيرهما، لكن الخالق هو الله تعالى يخلق بكلامه ليس كلامه خالقا، ولا يقول أحد قط: إن كلام الله خلق السموات والأرض".
[1] أخرجه البخاري في التفسير (4982).
[2] أخرجه البخاري في الأدب (6099)، ومسلم في صفة القيامة (2804)، وأحمد (4/ 395، 401، 405).
[3] في "كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل" (15/ 391).
[4] في "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" (4/ 272).
الألوكة
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك