قوله تعالى: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 40].
أولًا: سبب نزولها:
قال ابن عطية: في قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [التوبة: 38]، هذه الآية هي بلا اختلاف نازلة عتابًا على تخلف من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام، غزا فيها الروم في عشرين ألفًا بين راكب وراجل، وتخلف عنه قبائل من الناس ورجال من المؤمنين كثير ومنافقون، فالعتاب في هذه الآية هو للقبائل وللمؤمنين الذين كانوا بالمدينة.
وقال في تفسير المنار: هذا السياق من هنا يعني قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ﴾ [التوبة: 38]، إلى آخر السورة في غزوة تبوك، وما كانت وسيلة له من هتك أستار النفاق، وتطهير المؤمنين من عوامل الشقاق، إلا الآيتين في آخرها، وما يتخللها من بعض الحكم والأحكام، على السنة المعروفة في أسلوب القرآن، ومناسبته لما قبله أن المراد قتالهم في تبوك: هم الروم وأتباعهم المستعبدون من عرب الشام، وكلهم من النصارى الذين نزلت الآيات الأخيرة في حكم قتال اليهود وقتالهم، وبيان حقيقة أحوالهم، وأهمها خروجهم عن هداية دين المسيح عليه السلام، في كل من العقائد والفضائل والأعمال، وكان ذكر النسيء في آخره لما ذكرنا.
ثانيًا: تبيَّن مما سبق أن الله تعالى أراد بإنزال هذه الآية:
﴿ إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ... ﴾ أن الله تعالى هو المتولي الدفاع عن حبيبه ومصطفاه محمد صلى الله عليه وسلم، وهو المتولي نصرته، ولو لم يكن معه أحد من البشر، فجاءت الآية تبيانًا لعلوِّ قدره صلى الله عليه وسلم وعِظَم مكانته، وارتفاع منزلته عند ربه،
وإليك شيئًا من تفصيل ذلك مما ورد في الآية الكريمة:
1- ﴿
إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ ﴾
؛ أي: إلا تنصروه فقد نصره الله وقت أن أخرجه الذين كفروا من مكة، ووقت أن كان هو وصاحبه أبو بكر في الغار، ووقت أن كان صلى الله عليه وسلم يقول لصاحبه الصديق: لا تحزن إن الله معنا بتأييده ونصره وحمايته.
2- ﴿ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾، وذلك أن أبا بكر وهو مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، أحس بحركة المشركين من فوق الغار، فخاف خوفًا شديدًا لا على حياته هو، وإنما على حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم منه ذلك، أخذ في تسكين روعه وجزعه، وجعل يقول له: لا تحزن إن الله معنا.
أخرج الشيخان عن أبي بكر قال: نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار، وهم على رؤوسنا، فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، فقال: (يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا).
3- وقوله تعالى: ﴿ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها ﴾: بيان لما أحاط الله به نبيه صلى الله عليه وسلم من مظاهر الحفظ والرعاية، والسكينة: من السكون، وهو ثبوت الشيء بعد التحرك، أو من السكن - بالتحريك - وهو كل ما سكنت إليه نفسك، واطمأنت به من أهل وغيرهم.
والمراد بها هنا: الطمأنينة التي استقرت في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، فجعلته لا يبالي بجموع المشركين المحيطين بالغار؛ لأنه واثق بأنهم لن يصلوا إليه، والمراد بالجنود المؤيدين له. الملائكة الذين أرسلهم – سبحانه - لهذا الغرض، والضمير في قوله: عَلَيْهِ يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: فأنزل الله سكينته وطمأنينته وأمنه على رسوله صلى الله عليه وسلم، وأيَّده وقواه بجنود من الملائكة لم تروها أنتم، كان من وظيفتهم حراسته وصرف أبصار المشركين عنه، ويرى بعضهم أن الضمير في قوله عَلَيْهِ يعود إلى أبي بكر الصديق؛ لأن الأصل في الضمير أن يعود إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور هنا هو الصاحب، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن في حاجة إلى السكينة، وإنما الذي كان في حاجة إليها هو أبو بكر، بسبب ما اعتراه من حزن وخوف.
وقد رد أصحاب الرأي الأول على ذلك بأن قوله:
﴿ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها ﴾: الضمير فيه لا يصح إلا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو معطوف على ما قبله، فوجب أن يكون الضمير في قوله:
﴿ عَلَيْهِ ﴾ عائدًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ حتى لا يحصل تفكك في الكلام.
أما نزول السكينة، فلا يلزم منه أن يكون لدفع الفزع والخوف، بل يصح أن يكون لزيادة الاطمئنان، وللدلالة على علو شأنه صلى الله عليه وسلم.
4- وقوله تعالى: ﴿ وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا ﴾: بيان لما ترتب على إنزال السكينة والتأييد بالملائكة.
والمراد بكلمة الذين كفروا: كلمة الشرك، أو كلمتهم التي اجتمعوا عليها في دار الندوة، وهي اتفاقهم على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد بكلمة الله: دينه الذي ارتضاه لعباده، وهو دين الإسلام، وما يترتب على اتباع هذا الدين من نصر وحسن عاقبة؛ أي: كانت نتيجة إنزال السكينة والتأييد بالملائكة أن جعل كلمة الشرك هي السفلى؛ أي: المقهورة الذليلة، وكلمة الحق والتوحيد المتمثلة في دين الإسلام هي العليا؛ أي: هي الثابتة الغالبة النافذة.
الألوكة