قوله تعالى: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴾ [النساء: 47].
أولًا: سبب النزول:
قال القرطبي: قال ابن إسحاق: كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود منهم عبدالله بن صوريا الأعور، وكعب بن أسد، فقال لهم: يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق، قالوا: ما نعرف ذلك يا محمد، وجحدوا ما عرفوا وأصرُّوا على الكفر، فأنزل الله عز وجل فيهم: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴾.
ثانيًا: لقد أنكرت اليهود أن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو النبي الخاتم الذي كانوا ينتظرون وقد علموا صفاته وعلاماته من كتبهم، فذهب إليهم صلى الله عليه وسلم وذكَّرهم بذلك، ولكن أصروا على كفرهم وعنادهم، فأنزل الله هذه الآية الكريمة مهددًا ومبينًا لنهاياتهم، والآن إليك بيان ما في الآية من أوجه الدفاع عن خير البريات صلى الله عليه وسلم:
1- قوله تعالى: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم ﴾: أمر الله تعالى أهل الكتاب بالإيمان بما نزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب العظيم الذي فيه تصديق الأخبار التي بأيديهم من البشارات.
2- وفي ندائهم بقولهم: ﴿
يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا ﴾: تحريض لهم على الإيمان؛ لأن إعطاءهم علم الكتاب من شأنه أن يحمِلَهم على المسارعة إلى تلبية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وألا تأخذهم العصبية الدينية كما أخذت أهل مكة العصبية الجاهلية، ولأن هذا الإيمان الذي يدعون إليه هو التصديق بما أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم من قرآن؛ إذ هو يطابق في جوهره ما أنزله سبحانه على الأنبياء السابقين الذين يزعم أهل الكتاب أنهم يؤمنون بهم، إذًا فوحدةُ المنزَّل توجِب عليهم أن يؤمنوا بجميع ما أنزله الله.
3- ثم تهددهم بقوله تعالى: ﴿
مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا ﴾: اختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية، هل هو حقيقة، فيجعل الوجه كالقفا، فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين، أو ذلك عبارة عن الضلال في قلوبهم وسلبهم التوفيق؟ قولان:
الأول: رُوي عن أُبي بن كعب أنه قال: من قبل أن نطمس: من قبل أن نضلَّكم إضلالًا لا تهتدون بعده، يذهب إلى أنه تمثيل - أي عقوبة معنوية وليست حسية - وأنهم إن لم يؤمنوا، فعَل هذا بهم عقوبة، وقال قتادة: معناه من قبل أن نجعل الوجوه أقفاءَ؛ أي: يذهب بالأنف والشفاه والأعين والحواجب، هذا معناه عند أهل اللغة.
الثاني: وروي عن ابن عباس وعطية العوفي: أن الطمس أن تزال العينان خاصة وترد في القفا؛ فيكون ذلك ردًّا على الدبر ويمشي القهقرى، وقال مالك رحمه الله: كان أول إسلام كعب الأحبار أنه مرَّ برجل من الليل وهو يقرأ هذه الآية: ﴿
يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا ﴾، فوضع كفيه على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته، فأسلم مكانه، وقال: والله لقد خفت ألا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي، وكذلك فعل عبدالله بن سلام لَما نزلت هذه الآية وسمعها، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله وأسلم، وقال: يا رسول الله، ما كنت أدري أن أصل إليك حتى يحول وجهي في قفاي.
♦ فإن قيل: كيف جاز أن يهددهم بطمس الوجوه إن لم يؤمنوا، ثم لم يؤمنوا ولم يفعل ذلك بهم، فقيل: إنه لَمَّا آمَن هؤلاء ومَن اتَّبعهم، رفع الوعيد عن الباقين، وقال المبرد: الوعيد باق منتظر، وقال: لا بد من طمس في اليهود ومسخ قبل يوم القيامة.
4- قوله تعالى: ﴿
أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ ﴾؛ أي: أصحاب الوجوه، كما لعنا أصحاب السبت؛ أي: نمسخهم قردة وخنازيرَ، وأُريدَ باللعن هنا الخزي، فهو غير الطمس، فإن كان الطمس مرادًا به المسخ، فاللعن مراد به الذلُّ، وإن كان الطمس مرادًا به الذلُّ، فاللعن مراد به المسخ، وأَصْحَابَ السَّبْتِ هم الذين في قوله: ﴿
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾ [البقرة: 65]، وقد تقدَّم في سورة البقرة.
5- (وكان أمر الله مفعولًا)؛ أي: كائنًا موجودًا، ويُراد بالأمر المأمور، فهو مصدر وقع موقع المفعول، فالمعنى أنه متى أراده أوجده، وقيل: معناه أن كل أمر أخبر بكونه، فهو كائن على ما أخبر به، والجملة الكريمة تذييل قُصد به تهديدُ هؤلاء الضالين المعاندين؛ حتى يثوبوا إلى رشدهم، ويدخلوا في صفوف المؤمنين.
الألوكة