عرفت الثقافات البشرية هجرة المفاهيم من ثقافة إلى أخرى، ومن ميدان معرفي إلى آخر، وحين يهاجر المفهوم من ثقافة أو حضارة معينة إلى أخرى، فإن جهودا تبذل لتوطينه لكي يحمل في موطنه الجديد دلالات محددة. وبهذا يرتبط المفهوم ارتباطا وثيقا برؤية صائغه ومترجمه ودارسه وموظفه في العالم ككل؛ ذلك أن كل إنسان يحمل مجموعة من المفاهيم والمعتقدات والتصورات الإدراكية التي تمكنه من فهم الكون والحياة والإنسان والعلاقات القائمة بينها. ومفهوم الثقافة هو من بين هذه المفاهيم المهاجرة، فقد انتقل من موطنه الأصلي وتوطن في عدد واسع من المجالات في بلادنا العربية والإسلامية. ولن نبالغ القول في أهمية دراسة مفهوم الثقافة إذا أدركنا أن كل تفكير في مشكلات الحضارة، هو تفكير في مشكلة الثقافة.[2] بهذا المعنى فإن حل المشكلات الحضارية للبلدان العربية والإسلامية في هذا العصر، عصر عولمة الثقافة واكتساح التقنية لكل المجالات، بما فيها مجال الثقافة بمختلف مستوياته وتجلياته يتطلب بدايةً إعادة قراءة هذا المفهوم من جديد بالعودة إلى جذوره، وسياقات تطوره وتحولاته، باستعراض نقدي وتركيبي لمجموعة من المقاربات والنماذج النظرية والمعرفية لمفكرين غربيين ومسلمين، في أفق بناء حضاري جديد لهذا المفهوم يستحضر إشكالية تعدد الدلالات التي علقت به نتيجة توزعه بين فروع معرفية كثيرة، وتقاطعات المفهوم مع مفاهيم أخرى في مجالات أخرى.
1- تأصيل مفهوم (Culture) في دلالته الأصلية تعود جذور كلمة (culture) إلى لفظين لاتينيين هما (cultura) التي تعني حرث الأرض وزراعتها، ولفظ (colere) الذي يحمل مجموعة من المعاني كالسكن والتهذيب والحماية والتقدير إلى درجة العبادة.[3] واستخدمت مجازا مع الحكيم اليوناني شيشرون (106-43 ق.م) كغاية للفلسفة تعمل على تثقيف الذهن وزراعة العقل وتنميته (cultura animi).[4] وقد احتفظت الكلمة بهذه المعاني العملية في القرون الوسطى حيث أطلقت في فرنسا على الطقوس الدينية(les cultes) ورعاية الحيوان والنبات والعناية بالنمو الطبيعي.[5] وفي عصر النهضة اقتصر مفهوم (culture) على مدلوله الفني والأدبي الذي تمثل في دراسات تتناول التربية والإبداع[6]، غير أنه حافظ على الدلالات المشتقة منه كتنمية العقل وغرسه بالذوق وتزيينه بالمعرفة عند فولتير، أو العمل الذي يبدله الإنسان لغاية تطويرية سواء أكانت مادية أو معنوية مع طوماس هوبس.[7] إلا أن سنة 1871 م شكلت محطة حاسمة في تاريخ مفهوم الثقافة مع الأنثروبولوجي البريطاني إدوارد تايلور في كتابه "الثقافة البدائية" عندما عرفها باعتبارها: "ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعرف وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضوا في مجتمع".[8] هذا التعريف الشامل سيتحول إلى تعريف مرجعي لكل المختصين في العلوم الاجتماعية والإنسانية. وبانتقال مفهوم (culture) إلى (kulture) الألماني خلال القرن الثامن عشر ستكتسب الكلمة دلالات ثلاث: الأولى الحالة الاجتماعية المعارضة لحال بربرية الشعوب الهمجية، بما دل عليها تطور استعمال الأدوات والرفاه المادي والتنظيم السوسيولوجي، والثانية تحرر العقل الحديث من ظلمات الماضي وآرائه الاعتباطية (التنوير)، أما الثالثة فتهذيب العوائد وتشذيب الشمائل.[9] ويبدو أن تطور دلالة لفظ الثقافة بألمانيا خضع إلى القانون التالي: كلما تقدم الزمن بالمفهوم كلما مال إلى أن يتخصص[10]. فبالنسبة إلى كتاب العصر الكلاسيكي اتسع المفهوم لكي يشمل مظاهر التقدم، المادي والفكري والخلقي، التي حققتها البشرية معتبرة في جملتها. أما بالنسبة إلى تابعيهم فإن المفهوم ضاق بأشد ضيق يكون فصار يدل على جملة إنجازات فكرية، وقد عدت خيرا خاصا بأمة بل ومخصوصا بها موقوفا عليها دون سواها.[11] إلا أنه ابتداء من خمسينيات القرن الماضي ستظهر تعريفات أخرى ما بعد حداثية للثقافة أحدثت قطيعة مع الفكرة الأنثروبولوجية ككل مركب عند "تايلور" مع وخاصة مع ت.س.إليوت، وريتشاردز، وليفيز، ورايموند وليامز، ومدرسة فرانكفورت مع أدورنو وهورهايمر، وغيرهم. وهكذا فهذا التدرج في مفهوم الثقافة يبني على تطور تاريخي حكم الإنسان ونقله عبر أربع مراحل من تطور البشرية: تأنيس بعض الحيوانات التي كانت في البدء غير أهلية، وفلاحة الأرض، وتطوير التجارة والعلوم والفنون (الثقافة في دلالتها المتداولة العادية)، وإقامة أنظمة حكم وإيالة جيدة (وهي عند هيردر أصعب فنون الثقافة على الإطلاق).[12] 2- ترجمة مفهوم ( culture) إلى اللغة العربية أ. كمقابل للفظ العربي "ثقافة" تشتق الثقافة في قواميس اللغة العربية من لفظ ثَقِفَ التي تعني سرعة التعلم، فثَقِفْتُ الشيء إذا حَذَقْتُهُ وظفرت به، ورجل ثَقْفٌ حاذِقٌ فَهِمٌ فطِن.[13] كما يشير اللفظ أيضا إلى الآلة التي يقوم بها اعوجاج الرماح والسيوف، فتَثْقيف الرماح تسويتها،[14] والثِّقاف حديدة تكون مع القَوَّاس والرَّمَّاح يقوم بها الشيء المعوج،[15] ومنه قول عمرو ابن كلثوم:
إذا عض الثِّقافُ بها اشمأزت تشج قفا المثَقِّف والجبينا
وبهذا فأصل الفعل ثقف المرتبطة بالفعل الإنساني هي صفة عقلية وقوة إدراكية تستوعب المعرفة والمهارة التي تتطلب الحذق المتمثل في الوعي بهذا الشيء والتمكن منه والإحاطة به أو تقويم اعوجاجه على نحو يهدف إلى الصواب وإصابة الهدف. ويعد سلامة موسى أول من أفشى لفظة "الثقافة" في اللغة العربية كمقابل للفظة (culture) في الأدب العربي الحديثفي كتابه "الثقافة والحضارة"، لكنه يعترف بأنه لم أول من سكها بل انتحلها من ابن خلدون بتأويل لما وجده يستعملها في معنى شبيه بلفظة "كلتور" الشائعة في الأدب الأوروبي.[16] إلا أن مراجعتنا الشخصية لمقدمة ابن خلدون جعلتنا نقف على ستة استعمالات لغوية متغيرة المعنى للفظة "الثقافة". وذات اشتقاقات مختلفة، وليست كمفهوم مستقل قريب أو متطابق من فهمنا اليوم للثقافة، أوباعتبارها مفهوما أساسيا في علم الاجتماع الذي عمل ابن خلدون على بناء لبناته الأولى تحت مسمى: "علم العمران البشري والاجتماع الإنساني" كما أورد سلامة موسى لتبرير اختياره بمقابلة مفهوم الثقافة بمفهوم "culture" الأوروبي. وسيتضح هذا الأمر جليا عندما سيحاول تعريف مفهوم الثقافة باعتبارها: "المعارف والعلوم والآداب والفنون يتعلمها الناس ويتثقفون بها، وقد وتحتويها الكتب ومع ذلك هي خاصة بالذهن. أما الحضارة فمادة محسوسة في آلة تخترع وبناء يقام ونظام حكم محسوس يمارس، ودين له شعائر ومناسك وعادات ومؤسسات، فالحضارة مادية وأما الثقافة فذهنية"[17]، وهنا سنلاحظ اختفاء دلالات مفهوم ثقافة الأصلية لتنسخ بدلالات المفهوم الأجنبي (culture) وهي دلالات مادية تدعو إلى النقل والغرس والإحلال والزراعة. وقد نجد لهذا الاختيار تبريرا في الظرفية التاريخية التي عاش فيها سلامة موسى، والتي تميزت بظهور اتجاهات تدعو إلى نقل ثقافة الغرب الأوروبي على أساس أنها سبيل التطور والتقدم، وبنفس المسلمات الكامنة خلف هذا المفهوم من ضرورة الانتشار الثقافي والتثاقف والمثاقفة، وضرورة أن تتبنى المجتمعات التقليدية الثقافة الحديثة كسبيل للنهوض والتطور، لأن تاريخ البشرية في اعتقاد هؤلاء يسير في خط صاعد متقدم متجاوز بصفة دائمة، فكل قديم يحمل قيمة سلبية، وكل جديد يحمل قيمة إيجابية.[18] ب. كمقابل للفظ العربي "حضارة" يعود مشكل التباس مفهومي الثقافة الحضارة إلى مشكلة ترجمة المفاهيم، وانتقالها من ثقافة إلى أخرى، وهو ما جعل من الفصل بينهما أمرا إشكاليا قائما إلى حد الآن. فقد دل مفهوم الثقافة عند علماء الأنثروبولوجيا على مظاهر الحياة في كل مجتمع متقدما كان أو متخلفا، بدائيا أو متحضرا، في حين أن لفظ الحضارة عندهم يدل على مظاهر الحياة في المجتمعات المتقدمة وحدها[19]، وهذا ما نجد له تأكيدا عند ول ديورانت عندما سيعرف الحضارة باعتبارها النظام الاجتماعي الذي يساعد الإنسان على الزيادة في إنتاجه الثقافي، وإنما تتألف الحضارة من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون، وهي تبدأ من حيث ينتهي الاضطراب والقلق.[20] وهناك من يعتبر أن الثقافة هي جزء من الحضارة أو بمثابة الجسر الموصل إليها، فلكل حضارة ثقافة، ولكن ليس بالضرورة أن لكل ثقافة حضارة، إلا أن هناك فهما آخر تشير إليه بعض الدراسات الأوروبية في هذا المجال وهو أن الحضارة تختص بالجوانب الروحية والعقلية والأدبية، في حين أن الثقافة تختص بالجوانب المادية.[21] أو أنهما يعبران معا عن مركب واحد من الظواهر الاجتماعية، يمكن النظر إليه من وجهين: وجه مادي ملموس يتعين في المستوى الذي بلغه التقدم العمراني والتكنولوجيا عند أمة من الأمم، أو في مجتمع معين وفي حقبة تاريخية محددة، وكذلك في العلاقات الاجتماعية والعادات والمعتقدات، وفي المؤسسات وأنظمة الحكم. ووجه ثان يتجلى في نواحي الإنتاج الأدبي والفني والفكري والعلمي، ومعالم الرقي الأخلاقي والروحي.[22] وعلى العموم فقد احتدم هذا الخلاف بين اتجاهين بالخصوص: اتجاه يهيمن فيه لفظ "الحضارة" كفرنسا وانجلترا والولايات المتحدة الأمريكية، واتجاه فضل استعمال لفظ "الثقافة" كألمانيا وبولونيا وروسيا. فإذا كان الاتجاه الأول يرى بأن مفهوم الحضارة هو عام يشمل القيم الأخلاقية والمادية معا، فإن الاتجاه الثاني يميل إلى تحميل لفظ " الثقافة" دلالة الأمر المتعلق بالفرد (تكوين الفرد) كالشعر والشعور الديني والإحساس الشخصي والعمارة والموسيقى والعلم وغيرها، وبالعكس تحمل لفظة "الحضارة" دلالة الشأن المتعلق بالجماعة، أي دلالة المظاهر الخارجية -وليس الجوانية الداخلية- لوضع ثقافي معين.[23] وقد حاول عالم الاجتماع الألماني نوربرت إلياس أن يؤرخ لتاريخ ظهور هذا التعارض بين هذين المفهومين، فذهب إلى القول بأن الفيلسوف الألماني كانط كان أول من عبر عنه سنة 1784م تعبيرا صريحا عندما ربط بين نهضة ألمانيا وتنمية الثقافة المرتبطة بالفن والعلوم، وتحضير المجتمع لممارسة آداب السلوك ورسوم الكياسة الاجتماعية. وشكلت سنة 1919م سنة إحياء هذا التعارض الذي عمر قرنا ونصف من جديد، وهي السنة التي بوشرت فيها الحرب ضد ألمانيا باسم الحضارة، والسنة التي حاولت فيها ألمانيا إعادة تأكيد ذاتها بعد معاهدة فرساي.[24] وقد انتقل هذا الالتباس بين المفهومين إلى البلاد العربية والإسلامية، وتأثر الأنثروبولوجيون وعلماء الاجتماع العرب الذين ترجموا المؤلفات الأوروبية كشاكر مصطفى وعبد الرحمان اللبان وفؤاد زكريا وغيرهم، بمعركة المفاهيم التي وقعت بين الألمان والفرنسيين التي تحدثنا عنها سابقا، وهكذا عملوا على ترجمة (culture) تارة بلفظ "ثقافة" وتارة أخرى بلفظ "حضارة". كما ترجموا لفظ (civilisation) بلفظ "حضارة"، وفي حالات أخرى بلفظ "مدنية". إلا أنه وفي جميع الحالات فإن التعريفات المقدمة والمعاني الراسخة في الذهن هي مدلولات المفهوم الأوروبي المترجم نفسه، وليس الجذر اللغوي أو الدلالة العربية لهذين اللفظين. ولكل هذا سينصح نصر محمد عارف كل مترجم للفظ culture)) بالاحتفاظ به مكتوبا بحروفه اللاتينية في المتن المترجم، وبوضع لفظ " ثقافة" كمقابل له؛ وذلك حتى ينبه القارئ إلى أنه يقصد بإطلاق هذا اللفظ العربي المعاني التي يحملها المفهوم الأوروبي.[25] خاتمة مرحلية: وقفنا في العرض السابق على تاريخ مفهوم الثقافة في السياق الغربي، وما أخذه من دلالات في السياق العربي بعد ترجمته، وهي دلالات إشكالية في مجملها؛ حيث يترجم الأصل اللاتيني تارة إلى "ثقافة" وتارة إلى "حضارة". غير إن الإشكالات المرتبطة بالمفهوم لم تقف عند هذا الحد، بل تضاعفت وتناسلت بانتقال المفهوم إلى مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية، سواء في السياقين الغربي أو الإسلامي. فما هي الإشكالات الإبستمولوجية التي أفرزها المفهوم في السياق الغربي؟ وما هي المآزق التي وسمت توظيفه في السياق العربي؟ ما هي الآفاق المعرفية والفلسفية والإبستمولوجية التي أضافتها الرؤية الإسلامية إلى مفهوم الثقافة؟... هذه الأسئلة وغيرها، ستكون محور تحليل ومناقشة في الأجزاء المقبلة من الدراسة.
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
اكثروا من الحمد
.. استغفر الله الحمد لله ..
يأتي على الناس زمان تكون العافية فيه عشرة أجزاء :
تسعة منها في اعتزال الناس وواحدة في الصمت 🤐
- الإمام علي بن أبي طالب
_ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ _