تخصيص السنة للقرآن
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَنْ لا نبيَّ بعده.
تخصيص السنة للقرآن الكريم ينقسم إلى قسمين:
أولاً: تخصيص السُّنة المتواترة للقرآن:
اتفق العلماء: على جواز
تخصيص السُّنة المتواترة[1] للقرآن[2].
الأدلة:
1- من أمثلة
تخصيص السُّنة المتواترة (القولية) للقرآن:
أ - قوله تعالى: ﴿
يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ ﴾ [النساء: 11].
هذه الآية الكريمة خُصِّصت بقوله صلى الله عليه وسلم: (
الْقَاتِلُ لاَ يَرِثُ) [3].
ب- وقوله تعالى: ﴿
وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾ [البقرة: 43]. دل عموم الآية على وجوب إخراج الزكاة فيما يملكه الإنسان.
لكن هذا العموم خُصِّص بالسنة القولية المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدم إخراج الزكاة من الخيل، في قوله: (
لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ في عَبْدِهِ وَلاَ فَرَسِهِ صَدَقَةٌ)[4].
2- ومن أمثلة
تخصيص السُّنة المتواترة (الفعلية) للقرآن:
قوله تعالى: ﴿
وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ﴾ [البقرة: 222]. دلَّ عموم الآية الكريمة على حُرمة قربان الحائض في أيام الحيض، بجماع أو غيره.
لكن هذا العموم خُصِّص بالسُّنة الفعلية الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ قالت مَيْمُونَةُ - رضي الله عنها: (
كان رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
إذا أَرَادَ أَنْ يُبَاشِرَ امْرَأَةً من نِسَائِهِ، أَمَرَهَا فَاتَّزَرَتْ وَهِيَ حَائِضٌ)[5].
دليل الإجماع:
حكى الإجماعَ على جواز تخصيص السنة المتواترة للقرآن غيرُ واحد من أهل العلم، وممن حكاه:
1- الآمدي - رحمه الله - حيث قال: (يجوز
تخصيص عموم القرآن بالسُّنة، أمَّا إذا كانت السُّنة متواترةً، فلم أعرف فيه خلافاً)[6].
2- الشوكاني - رحمه الله - حيث قال: (ويجوز
تخصيص عموم الكتاب بالسُّنة المتواترة إجماعاً)[7].
ثانياً: تخصيص خبر الآحاد للقرآن:
اختلف العلماء: في
تخصيص أخبار الآحاد[8] للقرآن، على خمسة أقوال،
والراجح: جواز
تخصيص خبر الواحد للقرآن، وهو قول جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة[9].
قال الغزالي - رحمه الله -: (والمختار: أنَّ خبر العدل أَولى؛ لأنَّ سكون النفس إلى عدلٍ واحدٍ في الرواية لما هو نصٌّ، كسكونها إلى عدلَين في الشهادة)[10].
وقال الشنقيطي - رحمه الله: (يجوز
تخصيص الكتاب والسُّنة المتواترة بأخبار الآحاد؛ لأنَّ التخصيص بيان، والقطعي يُبَيَّن المقصود منه بالآحاد على التَّحقيق)[11].
الأدلة:
1- قوله تعالى: ﴿
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ﴾ [المائدة: 3].
الآية الكريمة خُصِّصت بإباحة النبي صلى الله عليه وسلم للحوت والجراد وهما ميتتان، والكبد والطحال وهما دمان، في قوله صلى الله عليه وسلم: (
أُحِلَّتْ لَكُمْ مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ؛ فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ؛ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ)[12].
2- قوله تعالى: ﴿
وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ﴾ [النساء: 24].
الآية الكريمة خُصِّصت بقولِ النبي صلى الله عليه وسلم: (
لاَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ على عَمَّتِهَا، ولا عَلَى خَالَتِهَا)[13]. فالحِلُّ العام في الآية خُصِّص بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها.
3- أنَّ الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعوا على
تخصيص القرآن بخبر الواحد، ولم يُخالف منهم أحد، فكان إجماعاً[14].
والخلاصة: جواز
تخصيص القرآن الكريم بالسُّنة النبوية الشريفة بقسميها: المتواتر والآحاد.
[1] (
الحديث المتواتر): هو الخبر الذي يرويه جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة عن أمر محسوس. انظر: تدريب الراوي، للنووي (2/ 180).
[2] انظر: المحصول في علم الأصول، للرازي (3/ 78)؛ الإحكام، للآمدي (2/ 394)؛ نهاية السول في شرح منهاج الأصول، لجمال الدين الأسنوي (2/ 456)؛ إرشاد الفحول، (ص138)؛ نسخ وتخصيص وتقييد
السنة النبوية
للقرآن الكريم، (ص271).
[3] رواه ابن ماجه، (2/ 913)، (ح2735)؛ والترمذي، (4/ 425)، (ح2109). وصححه الألباني في (صحيح سنن ابن ماجه)، (2/ 348)، (ح2157).
[4] رواه مسلم، (2/ 675)، (ح982).
[5] رواه البخاري، واللفظ له، (1/ 115)، (ح297)؛ ومسلم، (1/ 243)، (ح294).
[6] الإحكام في أصول الأحكام، (2/ 347).
[7] إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول، (ص267).
[8] (
خبر الآحاد): الآحاد جمع أحد، وهو بمعنى الواحد، وهمزة أحد مبدلة من واو، فأصلها
وحد.
وخبر الآحاد: هو الخبر الذي قَصُرَ عن التواتر. انظر: مختار الصحاح، (ص6)؛ إرشاد الفحول، (ص41).
واختلف العلماء فيما يفيده (خبر الواحد) على ثلاثة أقوال، والراجح: أنَّ خبر الواحد يفيد العلم، وهو مذهب أكثر المحدثين والفقهاء، وهو الصحيح عن الإمام أحمد - رحمه الله، وهو قول جمهور أهل الظاهر. وأقسامه ثلاثة: مشهور: وهو ما رواه أكثر من اثنين في جميع طبقات السند، ولم يصل إلى حد التواتر. وعزيز: وهو ما روي من طريقين، أو ما رواه اثنان فقط. وغريب: وهو ما لم يثبت إلاَّ من طريق واحد. انظر: التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح، للعراقي (ص268)؛ الحديث حجة بنفسه، للألباني (ص19).
[9] انظر: إحكام الفصول في أحكام الأصول، للباجي؛ المحصول في علم الأصول، للرازي (3/ 85)؛ المستصفى، للغزالي (2/ 159)؛ روضة الناظر، لابن قدامة (2/ 564)؛ شرح الكوكب المنير، لابن النجار (3/ 362)؛ نسخ وتخصيص وتقييد
السنة النبوية
للقرآن الكريم، (ص275).
[10] المستصفى، (ص249).
[11] نثر الورود على مراقي أبي السعود، (1/ 306).
[12] رواه أحمد في (المسند)، (2/ 97)، (ح5723)؛ وابن ماجه (2/ 1102)، (ح3314).
وصححه الألباني في (صحيح سنن ابن ماجه)، (3/ 129)، (ح2695).
[13] رواه البخاري، (5/ 1965)، (ح4819)؛ ومسلم، واللفظ له، (2/ 1029)، (ح1408).
[14] انظر: المحصول في علم الأصول، للرازي (3/ 86)؛ المستصفى، (2/ 160).
الألوكة