الحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين،نبينا محمد و على آله،وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إن من آيات الله العظيمة ونعمه الجسيمة على الأنام أيها الأحبة الكرام أن جعل النهار عونا لهم على تحصيل معاشهم وما يحتاجونه في أمور دينهم ودنياهم،والليل سكنا يرتاحون فيه من التعب، ويستعدون به لعمل النهار ،يقول سبحانه :(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) [ النمل :86].
يقول الإمام الشوكاني – رحمه الله- :" أي: جعلنا الليل للسكون والاستقرار والنوم ، وذلك بسبب ما فيه من الظلمة فإنهم لا يسعون فيه للمعاش، والنهار مبصراً،ليبصروا فيه ما يسعون له من المعاش الذي لا بدّ له منهم ، ووصف النهار بالإبصار، وهو وصف للناس مبالغة في إضاءته كأنه يبصر ما فيه . قيل : في الكلام حذف، والتقدير : وجعلنا الليل مظلماً ليسكنوا ، وحذف مظلماً لدلالة مبصراً عليه ". فتح القدير (4/154)
فنوم الليل هو من أهم الأسباب المعينة على العمل و الجد في النهار أيها الأحباب، يقول سبحانه :( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا ) [ الفرقان :47].
يقول الشيخ السعدي – رحمه الله- :"أي: من رحمته بكم ولطفه أن جعل الليل لكم بمنزلة اللباس الذي يغشاكم، حتى تستقروا فيه وتهدؤوا بالنوم وتسبت حركاتكم أي: تنقطع عند النوم، فلولا الليل لما سكن العباد ولا استمروا في تصرفهم فضرهم ذلك غاية الضرر،ولو استمر أيضا الظلام لتعطلت عليهم معايشهم ومصالحهم، ولكنه جعل النهار نشورا ينتشرون فيه لتجاراتهم وأسفارهم وأعمالهم فيقوم بذلك ما يقوم من المصالح ". تفسير السعدي ( ص364)
لذا كان من هدي نبينا صلى الله عليه وسلم أيها الأفاضل المحافظة على نوم الليل لما فيه من مصالح دينيه ودنيوية متعدية ترجع على العبد في أموره اليومية، يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-:"من تدبر نومه ويقظته -صلى الله عليه وسلم- وجده أعدل نوم، وأنفعه للبدن والأعضاء والقوى، فإنه كان ينام أول الليل ويستيقظ في أول النصف الثاني، فيقوم ويستاك ويتوضأ ويصلي ما كتب الله له، فيأخذ البدن والأعضاء والقوى حظها من النوم والراحة، وحظها من الرياضة مع وفور الأجر، وهذا غاية صلاح القلب والبدن، والدنيا والآخرة.
ولم يكن يأخذ من النوم فوق القدر المحتاج إليه، ولا يمنع نفسه من القدر المحتاج إليه منه، وكان يفعله على أكمل الوجوه". زاد المعاد (4/ 239)
لأجل ذلك كان عليه الصلاة والسلام يَكره الحديث بعد العشاء إلا لما فيه فائدة، فعن أبي بَرْزَةَ الأسلمي- رضي الله عنه- قال:" أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَ الْعِشَاءِ،وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا".رواه البخاري (568) ومسلم ( 647)
يقول الإمام النووي – رحمه الله- :" قال العلماء : وسبب كراهة النوم قبلها: أنه يعرضها – أي الصلاة- لفوات وقتها باستغراق النوم أو لفوات وقتها المختار والأفضل، ولئلا يتساهل الناس في ذلك فيناموا عن صلاتها جماعة، وسبب كراهة الحديث بعدها: أنه يؤدي إلى السهر، ويخاف منه غلبة النوم عن قيام الليل، أو الذكر فيه، أو عن صلاة الصبح في وقتها الجائز أو في وقتها المختار أو الأفضل، ولأن السهر في الليل سبب للكسل في النهار عما يتوجه من حقوق الدين والطاعات ومصالح الدنيا". الشرح على صحيح مسلم (5/ 146)
ومما يجوز السهر بسببه! ما كان فيه مصلحة راجحة بشرط أن لا يؤدي ذلك لتضييع ما هو أوجب كصلاة الفجر أو ما هو متعلق بحقوق الغير! فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا سمر إلا لأَحَدِ رَجُلَيْنِ لِمُصَلٍّ أو مُسَافِرٍ ". رواه الإمام أحمد في المسند (1/412) ، وصححه الشيخ الألباني – رحمه الله- في السلسلة الصحيحة ( 2435)
يقول الإمام النووي – رحمه الله- :" قال العلماء: والمكروه من الحديث بعد العشاء هو ما كان في الأمور التي لا مصلحة فيها،أما ما فيه مصلحة وخير فلا كراهة فيه،وذلك كمدارسة العلم، وحكايات الصالحين،ومحادثة الضيف والعروس للتأنيس ومحادثة الرجل أهله وأولاده للملاطفة والحاجة , ومحادثة المسافرين بحفظ متاعهم أو أنفسهم، والحديث في الإصلاح بين الناس والشفاعة إليهم في خير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإرشاد إلى مصلحة ونحو ذلك، فكل هذا لا كراهة فيه ".الشرح على صحيح مسلم (5/146)
ويقول الإمام ابن القيم -رحمه الله-:" السمر -أي السهر- بعدها –أي صلاة العشاء- ذريعة إلى تفويت قيام الليل, فإن عارضه مصلحة راجحة كالسمر في العلم ومصالح المسلمين لم يكره".إعلام الموقعين(3/148)
لكننا اليوم أيها الكرام نرى الكثير من أبناء الإسلام يخالفون هدي خير الأنام عليه الصلاة والسلام فيسهرون ويسمرون! دون سبب أو حاجة! مع أن ذلك مكروه!، يقول الإمام ابن رجب – رحمه الله- :" ومتى كان السمر بلغو ورفث وهجاء فإنه مكروه بغير شك ". فتح الباري في شرح صحيح البخاري لابن رجب (3/ 377)
ويعظم الخذلان ويزداد الحرمان ويأثم العبد أيها الأحبة والإخوان إذا كان سهره فيما يُغضب الرحمن! من ذلك ما يفعله بعض أبناء الإسلام! من مشاهدة الأفلام! أو المباريات! أو سماع مزمار الشيطان! أو إضاعة الأوقات في النميمة والغيبة اللتان لا يسلم منهما إلا من عصمه المنان،يقول الإمام النووي-رحمه الله- : "اعلم أن هاتين الخصلتين – أي : النميمة والغيبة- من أقبح القبائح وأكثرها انتشارا في الناس حتى ما يسلم منهما إلا القليل من الناس". الأذكار (ص 266)
ألا يعلم من اعتاد السهر!من غير مصلحة راجحة! أو أمر معتبر! أن هذا الفعل قد يَحرمه مما ينفعه في دينه ودنياه، فيعود عليه بالخسران والضرر ! يقول الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله- :" وإذا أطال الإنسان السهر فإنه لا يعطي بدنه حظه من النوم، ولا يقوم لصلاة الصبح، إلا وهو كسلان تعبان، ثم ينام في أول نهاره عن مصالحة الدينية والدنيوية، والنوم الطويل في أول النهار يؤدي إلى فوات مصالح كثيرة، وقد جرب الناس أن العمل في أول النهار أبرك من العمل في آخر النهار، وأنه أسد وأصلح وأنجح، وأنه أبرك فإن البكور مبارك فيه، وهؤلاء الذين يسهرون الليالي، لا شك أنهم لا يستطيعون البقاء بدون نوم، فلا بد للجسم من النوم، وطول السهر يحول دون ذلك ". اللقاء الشهري (1/323)
ألا يدري! من عوَّد نفسه على السمر! أنه بذلك يُضيع رأس ماله! الذي هو وقته! وهو أغلى ما يملك في هذه الدنيا الفانية!وسيسأل عنه يوم وقوفه بين يدي رب البرية!،يقول الشيخ ابن عثيمين–رحمه الله- :"فالوقت هو أغلى شيء، لكن هو أرخص شيء عندنا الآن، نمضي أوقاتنا كثيرة بغير فائدة، بل نمضي أوقاتنا كثرية فيما يضر، ولست أتحدث عن رجل واحد، بل عن عموم المسلمين. اليوم- مع الأسف الشديد- أنهم في سهو ولهو وغفلة، ليسوا جادين في أمور دينهم، أكثرهم في غفلة وفي ترف، ينظرون ما يترف به أبدانهم وإن أتلفوا أديانهم ". شرح رياض الصالحين ( 6/20)
ألا تعلم يا من تسهر فيما لا فائدة فيه! أنك كذلك! تفوت على نفسك! صلاةً هي من دأب الأنبياء والمرسلين وطريق العبَّاد والصالحين للقرب من رب العالمين وهي صلاة الليل!، فعن أبي أمامة الباهلي-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، فإنه دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وهو قُرْبَةٌ إلى رَبِّكُمْ، وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ وَمَنْهَاةٌ لِلْإِثْمِ".رواه الترمذي(3594)وحسنه الشيخ الألباني –رحمه الله-.
يقول المناوي –رحمه الله-:"قال القاضي :معناه : أن قيام الليل قربة تقربكم إلى ربكم ، وخصلة تكفر سيئاتكم وتنهاكم عن المحرمات ". فيض القدير ( 4/ 351)
فعلينا جميعا أيها الأفاضل أن نبتعد عن السهر الذي لا خير فيه! وعلى من كان فينا مبتلى بهذا الداء العضال و المرض القتال التوبة والرجوع إلى الكبير المتعال،يقول ابن الجوزي -رحمه الله- :"كلامك مكتوب وقولك محسوب وأنت يا هذا مطلوب،و لك ذنوب وما تتوب،وشمس الحياة قد أخذت في الغروب،فما أقسى قلبك من بين القلوب".التبصرة (2/272)
وأن نَعرف شرف أوقاتنا وأعمارنا ولنعمرها بما ينفعنا في الدنيا والآخرة ويُرضي خالقنا ، فإن الوقت يمضي والساعات تنقضي، وإن أحدنا لا يعلم متى تباغته منيته! ويأتيه أجله!يقول ابن الجوزي-رحمه الله-:"ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل". صيد الخاطر ( ص2)
فالله أسأل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يُعيننا وإياكم على استثمار أعمارنا بما يحبه ويرضاه، وأن يُجنبنا جميعا ما يُبغضه ويأباه ومن ذلك السهر الذي فيه مضيعة للأوقات وتضييع للخيرات وحرمان من الطاعات، فهو سبحانه ولي ذلك ورب الأرض والسموات.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك