جاؤوا إلي مسرعين
حاملين المصابيح الخافتة, بأيديهم المدماة
دخلوا دون إذن أو مذكرة تفتيش
أخذوا ينبشون التراب بأظافرهم كالخلود
موقظين الموتى من نومهم العميق
سألين عني رماد العظام, والورود الذابلة
دلهم أحد الضغفاء بإشارة من عظم سبابته إلى مكاني
فتقدموا من حطامي منتشين
فتحوا عليّ باب قبري
وكشفوني من كفني الأبيض
ثم غادر الجميع, ولم يبقى سوى متزعمهم وحامل الراية
ضجيجهم أثارني
وأجبر أصدقائي الديدان على الرحيل وتركي وحيداً
نفضت الغبار عن عيناي
ونظرت له نظرة الأشباح
نظرة تدب الرعب في قلوب القادة الشجعان, وفرسان الساحات والمعارك
ويرتجف لهولها كل من يملك روحاً بشرية
لكنه ظل ساكناً يتثائب
وكأن قطةً مقلمة الأظافر تنظر له
وكأن شاهد فأراً يهدد أسد بالتهامه
رجف قلبي وعادت إلي الروح المهاجرة
وعلمت بأني على موعد جديد مع الشيطان
جمعت بقايا شجعاتي المبعثرة
وقلت, بصوت من يبدي الشجاعة وهو يلذ بالفرار:
_ ماذا تريد مني يا هذا
وكيف تجرأت على الدخول إلى هنا
ألا تعلم بأن للقبور حرمة, كحرمة الحانات وبيوت الدعارة
ألا تعلم يا هذا....
ركلني على صدري دون مجهود يذكر, فتكسرت عظامي تحت وحل حذائه الملمع, وقال:
_ إياك أن تتحدث مجدداً دون إذن مني
هنا أنا من يتكلم فقط
وأنا تجيب فقط عند الضرورة
عضضت على شفتيّ بأسناني المحدبة
كما يفعل الطفل الصغير عندما يغضب من والديه
وقلت :
_ عندما كنت في عالم الأحياء
لم أتفوه بكلمة, وعندما فكرت بذلك
وأردت البوح بسري لرغيف الخبز
وجدت نفسي هنا بين الجثث المتحللة والديدان
والآن تريدني أن أصمت
متى يمكنني التكلم إذن, يا سيدي
أجبني فقط على هذا السؤال
وأعدك بأنك لن تسمع بعد ذلك مني حتى تنهيدةً نتنة
صفعني بقوة, وصرخ بشدة: أيها الغبي
_ لقد بقينا نعلمك أنت وأمثالك, وأفنينا عمرنا من أجلكم
وإلى الآن مازلت تقف أمامي كالعجوز الخرف
تتكلم فقط عندما نريدك أن تتكلم
هل فهمت أيها الكائن المعتوه؟
_ فهمت يا سيدي
والآن ماذا تريد مني يا مولاي
وما هو هذا الأمر العاجل الذي جاء بك لعندي
_ أريد أن أعيدك إلى الحياة مجدداً, أريد لبذرتك الفاسدة أن تثمر من جديد فقد تبين بأننا اخطأنا في حقك
وبأن محاكمتك كانت ظالمة وغير عادلة, ولقد اخطأ القاضي بالحكم
فتراجع عنه خطأه, كما يفعل النبلاء عندما يخطئون
_ الحمد لله
الحمد لله
لقد كنت على حق
لقد كنت على صواب
كم أنت كريم يا إلهي
علمت بأنه لن يصح إلا الصحيح
علمت بأنكم ستتراجعون عن أفعالكم المشينة
كما تراجع إخوان يوسف من قبل
علمت بأن قصة الذئب لن تمر على رجال هذا العصر
فلتفرح يا أبي
ولتذرفي دموع الفرح يا أمي
سأعود لكِ يا زوجتي
سأعود لأرى ابنتي تلاعب خصال شعري
عرفت بأن هذا اليوم آتٍ لا محال
لقد صدق الحكماء والشعراء, عندما قالوا:
امشي بدرب الحق ولو هلكت
واصنع المعروف يرتد لك
كم أنت كرم يا إلهي
علمت بأن شمس الحق لن تشرق بدوني
وبأن القمر لن يسهر إلا إن رأى نعاس عيوني
شكراً لك, يا سيدي
ولكن لم يكن من الحاجة أن تأتي بنفسك
فأشغالك كما أعلم كبيرة
كان يمكنك أن تنفخ في الصور كإسرافيل
وتقول: أيها المعذبون في الأرض
أيها المظلمون تحت هذا التراب الطاهر
افيقوا من ثباتكم
لقد أتى الدور عليكم لكي تعيشوا
فلقد سئمنا نحن هذه العيشة, ونريد أن نجرب حياتكم القذرة
نريد أن نجرب
النوم على الأرصفة, وأمام الجوامع والكنائس
نريد أن نجرب
التعارك
مع الحمام على الفتات
ومع الدواب على الشرب من الأنهار والجداول الضحلة
نريد أن نجرب
برد الشتاء القارص
وحر الصيف الحارق
أن نجرب
شوك الربيع الواخز
واصفرار الخريف الواهن
كان هذا يكفي
عندها لن تجد في المقابر أحد
لن تجد على الأرصفة أحد
لن تجد في المستشفيات أحد
عندها ستراهم يتجمعون, كالنمل حول قطعة السكر
كان هذا يكفي
_ اخرس أيها السكير عن ماذا تتكلم
وما هذه الخطبة الصماء التي القيتها
وما بك تصرخ كالمدمن, ألا ترى بأننا وحدنا
وما هذه الحركات والإشارات, أتحسب نفسك مهرجاً في سيرك
أو قائد أوركسترا في المسرح القومي
ومن هم المعذبون على الأرض والمظلمون
أين هم أيها الخرف
أين هم
_ عذرأ يا سيدي, ألم تقل بأنك أتيت لتعيدني إلى الحياة
وبأني ظلمت في المحاكمة
_ بلا أيها الجرذ القذر
لقد تبين معنا بعد تدقيق, بأن عقوبة الموت شنقاً
هي رحيمة في حقك, ولم تكن مناسبة لحجم خطاياك
لذلك قررنا أن نعيد الروح إليك, لتنال جزاؤك المناسب
وقد قررنا بعد قرار شعبي عام وبالإجماع وبالدم, أن تقطع أوصالك, وتعلق كاللوحات في شوارع المدن
وتصبح مزاراً للسياح والأجانب
ليرى الناس نهاية أمثالك من الخونة والعملاء
هيا أيها القرد اللعين
فلا وقت لدي لترهاتك
_ هيا يا سيدي
هيا مزقوا جسدي
فالشاة لا يضيرها السلخ بعد ذبحها
هيا مزقوه
ووزعوه على المباني كالأعلام وصور القادة
لعله يصبح منارة للأجيال القادمة
هيا مزقني دون تدخير
ولا تكوي جراحي ودعها نازفة
وانصحك بأن تقتلع لساني
لأنه كثير الكلام وخارج عن إرادتي
وقد يعود عليكم يوماً بالمشاكل
فلكي لا تتعبوا أنفسكم
وتعيدوا جمع أوصالي ومحاكمتي من جديد
هيا
هيا أيها الشيطان, مارس عملك
هيا مزقني
فالحياة بينكم هي الموت
والموت هو الخروج من رحم الحياة اليافع
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك