مقدمة:
الْحَمدُ لله الكَريمِ المنَّان، ذي الفَضْلِ والجُودِ والعطاءِ والإحْسان، أنزل القرآن ليكون هِدايةً للحَيْران، وعصمةً لمن اسْتَمسكَ به من وسَاوسِ الشَّيطان، وشرفًا ورفعةً لمن اهتدى به وعلوًّا في الشَّان، وأصلِّي وأسلِّم على خير من قرأَ ورتَّل، وقام بين يدي ربِّه وتبتَّل، وعلى آله وصحابته الكرام، مَنْ هم في خير مَقام، وأسعد مُقام، وبعد:
فإنَّه لما أراد الله عزَّ وجلَّ أن يمتدح شَهر رمضان، امتدحه فقال: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185]، ولما أراد جلَّ شأنُه أن يمتدح ليلة القدر، امتدحها فقال: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1].
فشهر رمضان، هو شهر كسائر الشهور؛ ولكنه لما اختصَّه الله بنزول القرآن فيه، أصبح أعظم الشهور، وليلة القدر هي ليلة كسائر الليالي؛ ولكنها لما اختصَّها الله تعالى بنزول القرآن فيها، أصبحت أفضل الليالي.
هذه هي بركة القرآن، أينما حلَّ حلَّتْ معه العِزَّة والكرامة، وحلَّ معه الشرف والرِّفْعة، فإذا حلَّ في مجلس أصبح أعظم المجالس، وفي الحديث عَنْأَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْإِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ))[1].
وإذا حلَّ في صدر إنسان أصبح أشرف الناس وأكرمهم عند الله تبارك وتعالى؛ قال تعالى: ﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 10]؛أي: لقد أنزلنا إليكم كتابًا فيه شرفكم[2]، فهو شَرَفٌ لمن تعلَّمَه، وشرَفٌ لمن عمِل به، وعَلَّمه،وفي هذه الورقة سأذكُر جملةً من الأمور التي يشرف ويعظم بها قَدْرُ حامل القرآن:
أقول:
إذا كان الله عز وجل قد جعل النجوم مصابيح تُزيِّن السماء، وتهدي السائرين، فإنه قد جعل حملة القرآن[3] مصابيح تتزيَّن بهم الأرض، ومنارات تهدي الحائرين والتائهين.
وَفي الحديث: ((أَشْرَافُ أُمَّتي حَمَلَةُ الْقُرْآنِ))[4] الذين هم حُفَّاظه، القائمون بحقِّه تلاوةً وعملًا[5]، من جمعوا بَيْنَ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الرَّافِعِ[6].
فحامل القرآن العَالِم والعَامِل به، شرَّفَه الله بأمور منها:
♦ شرف أن يكون من أهل الله وخاصَّته:
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ))، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: ((هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ ))[8]؛ أَيْ: أنهم أَوْلِيَاؤُهُ الْمُخْتَصُّونَ بِهِ اخْتِصَاصَ أَهْلِ الْإِنْسَانِ بِهِ[9].
♦ شرف مرافقة الملائكة الأبرار:
ففي الحديث عَنْعَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: قال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ حَافِظٌلَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَة،وَمَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ وَهُوَ يَتَعَاهَدُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ، فَلَهُ أَجْرَانِ[10])).
♦ شرف الترقي في درجات الجنة:
ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا))[11]، فمن كان يحفظ جميع القرآن، نال أعظم الدرجات في الجنان[12].
♦ شرف نيل شفاعة القرآن:
ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اقْرَءُوا الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ))[13].
♦ شرف نيل صفة الخيرية:
لحديثعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَرضي الله عنه أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ))[16].
وإنما نال حامل القرآن هذه الصفة؛ لأن أشرف ما يتعلَّمه الإنسان هو القرآن، وقد قيل: شرف العلم بشرف متعلقه، وليس هناك أشرف ولا أفضل من كلام الله تعالى[17]؛ ولهذا قال ابن بري:
وبعدُ فاعلم أنَّ علم القُرآن
أجملُ ما به تحلَّى الإنسان
وخَيرُ ما علَّمه وعلِمه
واسْتَعملَ الفِكر لهُ وفَهمه[18].
ومما يحقُّ لقارئ القرآن أن يفتخر ويسعد به كذلك، أنه يكون من أكثر الناس أجرًا وثوابًا، من كثرة قراءته للقرآن[21]؛ فعن عَبْدِاللَّهِ بْن مَسْعُودٍ،قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ؛ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ))[22].
فهذه جملة من الشواهد والأدلة الدالة على شرف ومكانة أهل القرآن، وهي أدلة يفهم منها ضرورة الاهتمام والعناية بأهل القرآن، خصوصًا ونحن في شهر رمضان الذي هو شهر القرآن، وشهر الاحتفاء بأهل القرآن، وفي الحديث عن عَائِشَةَرضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَأَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ [23].
وقد كان عليه الصلاة والسلام أول من نوَّه بحملة القرآن، ودعا إلى تقديرهم وإجلالهم[24]؛ ففي الحديث عَنْأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ،قَال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ، وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِط))ِ[25].
ومن تتبَّعَ سيرته صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، يَرَ مدى تقديره صلى الله عليه وسلم لأهل القرآن، فقد نوَّه صلى الله عليه وسلم بعبدالله بن مسعود، فعنه رضي الله عنه: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ بَشَّرَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:((مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِابْنِ أُمِّ عَبْدٍ[26])).
ونوَّه صلى الله عليه وسلم بحُسْن صوت أبي موسى الأشعري، فعنه رضي الله عنه أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: ((يَا أَبَا مُوسَى، لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِدَاوُدَ))[27].
ونوَّه صلى الله عليه وسلم كذلك بأبي بن كعب، واختاره للفتح عليه في الصلاة؛ فعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةً، فَقَرَأَ فِيهَا، فَلُبسَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ لِأُبَيٍّ:((أَصَلَّيْتَ مَعَنَا؟))، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: ((فَمَا مَنَعَكَ؟))[28].
وقد غرس صلى الله عليه وسلم هذا الأمر في نفوس أصحابه؛ فقد قال أنس رَضِي الله عَنهُ: كَانَ الرجل إِذا قَرَأَ الْبَقَرَة وَآل عمرَان جد فِينَا[30].
خاتمة:
بعد هذا أقول: إن حمل القرآن شرف، وما من شرف إلا ويقابله تكليف، والله تعالى يقول: ﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴾ [الزخرف: 44]، وقد قال عليه الصلاة والسلام: والقرآن حُجَّة لك أو عليك[31]، فعلى حامل القرآن أن يُعظِّم القرآن، ويُدرِك قيمة النِّعْمة التي أكرَمَه اللهُ بها، والحمد لله رب العالمين.
[1] سنن أبي داود،كتاب: الصلاة، باب: تفريع أبواب الوتر،باب: في ثواب قراءة القرآن.
[2] تفسير الطبري، ج18، ص416.
[3] قال القرطبي: "حملة القرآن هم العالمون بأحكامه، وحلاله وحرامه، والعاملون بما فيه"؛ الجامع لأحكام القرآن، ج1، ص23.
[4] رواه البيهقي في شعب الإيمان برقم 2447، والطبراني في المعجم الكبير برقم 12662.