قصة من
التراث الجيزاني
مدخل:
وتضل حكاياتنا تغرس في نفوسنا شيء من البقاء نتغنى بها وتتوارثها أجيالنا نتذكر بها نهجاً قويماً انتهجه أسلافنا إيماناً بقدسية العمل وبقيمة العرق الذي سقوا به التراب فظل يعبق برائحةً،،، دوماً ما تشعرنا بالوجود
يتصبب عرقاً فوق سطح (المجران) ركن( مخباطه) جانباً وأراح نفسه قليلاً ، داعب جبينه الهواء الذي شعر ببرودته ، حمل (زنبيله) المنتصف بحبوب الذرة المنقاة بعد أن ذراها في مهب الريح ، أدرج (مخباطه) في معاليقه وأسنده على كتفه عائداً لمنزله ، استقبلته زوجته وحملت عنه رزق يومه بينما أخذت ابنته تنفض بقايا (الحماط) العالق بين أكتافه المتسلل عبر شقوق (كوته) الذي يرتديه، تدلت الشمس إلى المغيب نغم الطاحونة الحجرية يداعب أسماعه ويكتمل عقد الأسرة مع المساء،
فرغت زوجته من طحين الذرة بعد أن تعالت أدخنة ( الميفا) خبزت عجينها ليتناول أفراد الأسرة خبزاً حالياً ولبناً أدرته خيراً بقرتهم الوحيدة، استرخى الأب على كرسيه الخشبي بينما التف حوله أبناءه في مساء مفعمٍ بالألفة وشعور رائعٍ بالحياة بعد مشوار يوم من العمل ،،
هدأ الليل سكوناً وأضفت نجوم السماء لألئ تزين أفاقها ، ينقطع ثم يسترسل هبوباً حُراً بارداً ينطلق من كل مكان يغظ فانوساً عتيقاً يتوسط المطرح ، بينما ينام الجميع من فرط التعب بعد عناء يوم من العمل، صحا في غير عادته منتصف الليل تفقد أبناءه غطى زوجته بلحافه ثم تفقد ابنته على فراشها فلم يجدها ، استرق الخطوات إلى داخل ألعشه لعلها هناك أنصت لصوت يتسلل من فتحه تطل إلى خلف العشه اقترب ليسمع حواراً دافئاً ، نعم احبك ولكن إلى متى نستمر هكذا؟ تأجج غضباً وتداخلت قراراته هم بشيء ولكنه استعاذ من الشيطان بعدما أدرك أن ذلك اللقاء المسترق تحفه العفة، أحدث صوتاً ليدركا بأن هناك من استيقظ ، عادت على أطراف أصابعها إلى فراشها، خرج بعد ليتوضأ لصلاة الليل كانت نفسها وجلة خوفاً من أبيها لعلة افتقدها يذهب بها الفكر مراراً تظل منصتةً لتكبيراته التي تسري عبر عتمة الليل لتعانق أسماعها ترقب ركوعه وسجوده حتى فرغ من صلاته طواألمصلاة ووضعها على (الدكه) وعاد أدراجه إلى فراشه يرتفع صوته بالتهليل والتسبيح، داخلها الاطمئنان بأن الموقف قد مر بسلام، صاح الديك بعد بزوغ النجمة أطل الفجر بشذا الأزهار وبقطر الندى العالق على الأوراق، استيقظ الجميع واجتمعوا على قهوة الصباح ، أحس الأب بابنته تسترق النظر إليه ولكن لم يبدى لها ما يريبها ، حمل (مخباطه) و صاح بزوجته جانباً وأخذ يتمتم لها بينما كانت الابنة قلقه تتسمر شفتيها على حافة الفنجان ، غادرها بخطوات ثم عاد ليعاود تمتمته ، لاحظت الفتاة تغير ملامح أمها وحكت غضباً أدركت أن هناك شيء ما قد حدث، في لحظة شرودها نادت بها أمها فصاحت منزعجة ، فطلبت منها أن تذهب لحلب البقرة ومخض اللبن بينما هي ستتولى أمر جلب الماء ، وصل الأب واخذ في نثر (أعذقته) وخبطها عادت الأم بعد أن أكملت الابنة عملها ثم دعتها لتقول لها اسمعـــي يا بنتي لقد افتقدك والدك البارحة وسمع ما دار بينكما أنت وابن جارنا البارحة إلا انه استأثر نصحك ساعتها لأمر في نفسه وطلب منى إبلاغك ونصحك حتى لا تعودي إلى ما فعلتي ، بكت وأخذت في سرد وعودها ومتوسلةً أمها بان تشفع لها ، ضمتها إلى صدرها بحنان وقالت لها نحن بسطاء نعيش من كد والدك ولا نحب أن نكون حديث الناس أو يمس شرفنا بسوء ، وإذا كان يريدك فليأتي من حيث يأتي الشرفاء،
الآن اذهبي (بزواد) أبيك فقد حلت ساعة (الهاجرة) خرجت نحو أبيها واتت عليه متكئاً ساعة قيلولته تحت شجرة(الرقع)، وقفت بين يديه وهي مطرقةً برأسها خجلاً أشار إليها بيده لتجلس بجواره فجلست وبصوت ممزوج بالبكاء أعدك يأبي بان أكون ابنتك التي ربيتها ولن أعود إلى ما فعلت‘
ابتسم واخذ يحدثها عن قيم الفتاة المحافظة وعن عاداتهم الأصيلة، انظري كيف نعمل لنوفر رزق يومنا، عملت مع والدي منذ صغري كنتُ وحيده ، كان يخاف أن يموت قبل أن أعي حب الأرض وشرف العمل فكان يأخذني معه ليغرس في نفسي معنى العرق المتصبب على التراب كبرت وتعلمت منه كانت الأرض هي المدرسة مات والدي وورثت قلمه هذا، ثم تناولا إفطارهما معاً، عادت الأنبه بينما الأب ينتظر عصرية يومه ليذري حبوب ألذره ليملأ الأكياس من محصول هذا العام الوفير
وكالعادة يجمعهما المساء الذي يضفي عليه بساطة الريف وهناء العيش المتواضع وحلاوة الأرض المغسولة بالعرق النقي،،،
كان مستلقياً يقلب بصره في السماء الصافية تمر السحاب كتلاً أمام ناظريه ، يخاطبها في نفسه إلى أين يا سحب الخير أمطري لتحمل الأرض بمائك ذهباً ويستحيل الخريف القادم عرساً اعزف فيه خيراً كخريف هذا العام، أقام نصف جسده واتكاء على يده أليسرا أحست زوجته به وسألته عما أهمه ، اخبرها ليس هناك شيء سوى إني كنت استعير راحلة جاري لأحمل عليها أكياس الذرة الى السوق ولكنه باعها بالأمس ، ردت عليه إن الله كريم،
غفا الجميع تحرسهم عناية الخالق تلتف الأسرة حول بعضها يلتحفون السماء أحاطهم الليل بثوب كسا أرجاء المكان، هدأت الأنفاس وبقيت دائرة الضوء المشعة من الفانوس العتيق تتسع مراراً وتغض أحياناً وتضيق بين والحين والأخر، تنسل ساعات الليل هجعة تنبعث من الراديو المعلق بعتبة ألعشه، هُنا الرياض وتتداخل أصوات البرامج بين تلاوة قران وحديث متداخلاً بمؤثرات أخرى
كان ذلك العاشق يمضى اليل منتظراً معشوقته لم تأتي حملته الجرأة ليسترق المسافة على رؤوس أصابعه لإقاضها عبر مساحه ضيقة نحو مضجعها ، وأخذ يضرب بيده فوق كتفها شعرت به فنهرته ماذا أتى بك إلى هنا هيا اذهب أو صحت بوالدي شعر بالخوف فلم تعد تلك التي يعرفها حاول العودة فارتطم بالفانوس فأوقعه فنهض الأب على هرولته فتبعه بعصاه المركونة عند رأسه ، فرمى بها تابعاً الفتى عبر الظلام فأصابه فوقع أرضاً يصل إليه ليتفقده فوجده يلفظ أنفاسه حاول حمله فما أسرع القدر فقد فارق الحياة،
جثم على ركبته بجواره متحسراً ماذا فعلت لقد قتلت ألفتى، سرعان ما حضرت زوجته وابنته صاحت الفتاة لقد نصحته ولم يرتدع ولكنه قضاء الله وقدرة
تستيقظ القرية وتتفرق في أرجائها الفجيعة الممزوجة بشقاء الخابط تمر صور الشتات أمامه وترسوا حول عشته مراكب الضياع يحضن أولاده واحداً تلو الأخر،
يتهافت العقلاء إلى المكان صمت يخيم على الأنفاس، تتضارب الآراء وتتنوع المشورات ويحُمل الفتى إلى دار أبيه، يقرر الشيخ بعد أن أشار عليه أعيان قريته تسليم الجاني إلى الحكومة ، وضم أسرته إليه لتكون تحت رعايته ،
سلم الأب إلى الدولة وأودع السجن بينما تتأجج مشاعر الغضب بين أهل الفقيد،
كالمد والجزر تغدو وتروح مساعي أهل الخير يمر عام بفصوله الأربعة ويعبر الخريف بجوار دون العرس الذي تخيله فأكياس ألذره ما زالت مرصوصة تنتظر من يحملها إلى السوق نبشت( الرضه) أوساطها وجرفت مياه الأمطار بعض مخزونها لتنبت زرعاً متفرقاً ‘‘في ساحة القضاء مثل الجميع أمام القاضي يصر أهل الفتى على الاقتصاص من القاتل، يرجى القاضي الحكم موعزاً لأهل الخير في مواصلة السعي بالإصلاح، كانت الأسرة تعاني الحرمان بعد أن حرمت من رعاية والدهم ، فقط بإنسانية الشيخ الذي وهبهم منزلاً بجواره يعيشون تحت كنفه وبما تجود به أنفس المحسنين،
كان موعداً مخيفاً خاصة وقد وصلت المساعي إلى طريق مسدود تتصاعد الأنفاس في ساحة القضاء عامان دون ما يبشر بالفرج نظرات الأسى وتناهيد الرجاء تضل تسابق النداءات إلى العفو والإصلاح يزداد المتبرعون بالدية ويزداد أب القتيل إصراراً على الاقتصاص احتبست الأنفاس وشخصت الإبصار لسماع الحكم ينطق القاضي( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) ليحكم بالاقتصاص منه بضرب عنقه بالسيف نفساً بنفس ، تتعالى صيحات التكبير مزوجتاً بأصوات البكاء من زوجته وابنته يقتاد إلى سجنه ويلتف الناس حول أب القتيل يتوسلون ان يرحم الجاني وان يقبل العفو مقابل الدية ، يغادرهم بشيء من الرضا وكثير من الإصرار على الاقتصاص،،
عاد الجميع بحزن يملأ النفوس بينما الأم وابنتها بدموع تنهمر من مخزون الأسى يحضنان بعضهما البعض على مصير عائلهم الذي بات محتوماً،
لنحيبهم أصداء توغل عبر عتمة الليل إلى السماع الجيران0 بضعة أيام حمل العائدون موعد التنفيذ كانت الابنة تعبر من أعماقها وهج كلمات أبيها تتوضأ وتناجي ربها بأن يحف أبيها برحمته فرغت من صلاتها وأخرجت( مخباط) أبيها واحتضنته باكية وأسندته بجوارها منتظرة بزوغ الفجر الذي يشرق بالحزن لتعمل بوصية أبيها من أجل اخوتها0 لم تنم حتى أدت صلاة الفجر واتجهت إلى الشيخ تستأذنه بالعمل في (مجرانه ) كان الشيخ يعلم بان هذا ليوم هو موعد الاقتصاص من والدها تلعثم بالكلام وشع منى عينيه حزناً فأخذ يواسيها أن كان ذلك يريحك ابنتي فافعلي ، غادرته بحنقه مزروعة في حلقها وعينان تمطر بالدمع،،
تقف على ظهره عنفواناً يمتد صلابتاً من فيض إرادتها وتنثر (أعذاقاً) مثقلة بالذرة ينتصف النهار ينهكها التعب تغفو رغماً عنها تصحو على صوت (الخبيط)المنبعث تقف لترى أبيها يضرب الأرض ، تناديه وملء عينيها الفرح تركض إليه تحتضنه باكية ويحيطها بذراعيه مردداً إنها أرادة الخالق لقد عفا عني في أخر لحظة وقبل بالدية فدفعها إلية أهل الخير ، أطلق صراحي ، عُدت إلى أمك أخبرتني بأنك بكرتي إلى هنا فوجدتك غافية تتوسدين (المخباط) أخذته دون أن تشعري ليوقظك صوته فقد كنت اعزف به لحن العودة لأكون ذلك العائد بالأمل بعمر جديد ‘‘ها أنا كوليد سقته الأرض حناناً ، أصرا على إكمال يومهم بالعمل‘ عادا معاً في المساء يتساءلان دون بوح فقط يجيبهم شفق الغروب،،،،،،