إن رحلة الإسراء والمعراج فيها حكمة لنا أجمعين،فإن الله فيها يعلي هممنا، ويفتح المجال لسمو أرواحنا، حتى نخرق أسوار عالم الأكوان، ونسوح بأرواحنا، وأنوار قلوبنا في الملأ الأعلى، إلى حيث قدَّر لنا الرحمن عزَّ وجلَّ ، فجعل الله عزَّ وجلَّ حكمة الإسراء لحبيبه ظاهرة في قوله عزَّ شأنه:
( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى ) لماذا؟ ( لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ) (1سورة الإسراء)
الحكمة العليا لكي يرى من آيات الله؛ آيات مُلْكِيَّة في عالم الأرض، وآيات روحانيَّة في بيت المقدس، فقد رأى أرواح النبيين والمرسلين.وآيات علويَّة وسماويَّة في السموات العلى، وآيات جنانيَّة في الجنات،وآيات نورانيَّة في عوالم الأنوار، وآيات لوحيه ، وآيات قلميه،وآيات عرشيه، وآيات إلهيَّة، وآيات قدسيَّة آيات لا عدَّ لها ولا حدَّ:
وماذا بياني والعقول عميَّةٌ ولا كمٌ بل ولا كيف في الأكوان
والأسرار ليس فيها كمٌّ ولا مقدا، فكانت الحكمة بالنسبة للحبيب الأعظم أن يريه الله هذه الآيات. وفتح الله عزَّ وجلَّ الباب للمصطفين من أمته، والأخيار من أتباع شريعته، الذين لبسوا ثياب العبودية لله، وصاروا عبيداً لحضرته.
ولذلك لم يقل الله (سبحان الذي أسرى بنبيه) أو (سبحان الذي أسرى برسوله) حتى لا يغلق الباب، بل إنه فتح الباب للأحباب؛ فقال ( بِعَبْدِهِ ).
فكلُّ من تمكَّن من الوقوف، بنفسه، وقلبه، وروحه ،على أعتاب العبوديَّة، وتجمل بأوصاف العبيد؛ فله قسط ونصيب من المكاشفات على قدره، وعلى قدر صفائه ونقائه، حتى يكون من الذين قال الله فيهم:
( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا )
(32سورة فاطر)
أي لهم نصيب في وراثة الكتاب ، وهو صّلى الله عليه وسلم لبُّ الكتاب ، ونور الكتاب، وحقيقة الكتاب صلوات الله وسلامه عليه ، فكأن الله يقول لنا في ليلة إسراء ومعراج حبيبنا،من يريد قسطاً من الأنوار، ومن يطلب سياحة في عالم الملكوت مع الأبرار؟ ، ومن يريد أن يطَّلع على الكتاب الذي يقول فيه العزيز الغفار
( إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّون . كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) (18: 21المطففين)
ولم يقل: (يقرأه )، ولكن ( يَشْهَدُهُ ) بعين اليقين ( الْمُقَرَّبُونَ )، فيطَّلعون على ما فيه.
كان سيدي أبو العباس المرسي رضي الله عنه ،وهو منهم ، إذا جاءه سائل يسأله عن أية في كتاب الله، يقول:
{ انتظر!، ثم يغضي(1) رأسه لحظة ثم يرفعها ويقول: اطَّلعت على اللوح المحفوظ؛ فوجدت فيه معنى هذه الآية وهو كذا، وكذا }
أين يقرأ التفسير؟، في ألواح العلي القدير عزَّ وجلَّ، وهل هناك تفسير في ألواح الله؟ إلى ذلك الإشارة في قول الله:
( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) (19سورة القيامة)
أي هناك بيان عندنا خاص لكتاب الله عزَّ وجلَّ. فهؤلاء القوم نما شوقهم، وعلا سعير الغرام لحضرة الحق في قلوبهم، وانفتقت المحبَّة في كل أرجاء أفئدتهم لحبيبهم، صلوات الله وسلامه عليه، وأخذوا الطريق القويم، والمنهج المستقيم، من الإسراء والمعراج للرؤوف الرحيم صلوات الله وسلامه عليه.
كيف يرى الإنسان الغيوب؟ غيوب القلوب، وفي القلوب غيوب، وأسرار النفوس؟، وكوامن الخـواطر؟، وما كتبه الله بقلم القدرة على عوالم الأشياء؟ ، ليفصح عن أسرارها للعارفين والحكماء والألبَّـاء؟
فإن لله رجالٌ؛ تناديهم الحقائق ، وتفصح لهم عما ادَّخره الله عزَّ وجلَّ فيها من خير للخلائق، فقد تناديه ورقة في شجرة، وتقول، جعل الله فيَّ كذا وكذا وكذا، فيأخذ الأسرار منها:
( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ )
(44سورة الإسراء)
كل هذه الأشياء تحتاج إلى أمر واحد بيَّنه لنا الله مع حبيبه ومصطفاة ،فقد كان صلَّى الله عليه وسلَّم نائماً عند الكعبة، ثَّم جاءته الملائكة الكرام؛ فأيقظوه، وأخذوه، وشقوا صدره، وأخرجـوا قلبه، ووضعوه في طست من ذهب، وغسلوه بماء زمزم(2)
وقد جعل الله ذلك ليلاً، لتعلم علم اليقين ،أن هذه الأسرار لا تظهر وأنت مشغول بشيء عليه ضوء النهار، وإنما إذا أردت أن يكاشفك الله بالأسرار، فغض عينك عن زينة الدنيا، وزخرفها، وبهرجها، واسمع إلى الله وهو يقول لحبيبه ومصطفاة، أو يقول لنا في شخصه صلوات الله وسلامه عليه:
( وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ) لماذا يا رب؟ ( وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) (131سورة طه)
أي: رزق ربك من العلم الإلهامي، ومن الفتح ألشهودي، والكشف الرباني، والنور القدسي، وخزائن الفضل الاصطفائي، هي خير وأبقى مما تراه وتشهده في عالم الناس، وليس هناك مجال لقياس.
إذن من أراد الورود، فعليه أن يغضَّ عين قلبه، وليس عين رأسه عن زينة الدنيا، فإن الذي غضَّ عين قلبه، تنظر عين رأسه ولا يتحرك قلبه لأنه مشغول البال بالواحد الكبير المتعال عزَّ وجلَّ:
غض عين الحسِّ واشهد بالضمير تشهدن يا صبَّ أنوار القدير
هل يستطيع الإنسان أن يرى بالعينين في وقت واحد؟لا يكون ذلك إلا لمن ملك حال نفسه، وفارق كونه ولبسه ،ولكن في البداية، فإن على أهل العناية أن يغضوا عين الحسِّ ليصحو ضمير القلب، ونور الربّ ، فيكشف الله لهم الحجاب، فيرون بنور حضرة الكبير الوهاب عزَّ وجلَّ.
فقد ثبت شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات: الأول في طفولته عند حليمة
لنزع العلقة التي قيل له عندها هذا حظ الشيطان منك، والحديث في ذلك
ثابت صحيح أخرجه مسلم وغيره ولفظ مسلم (عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه
فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك ثم غسله في طست
من ذهب بماء زمزم ثم لأمه ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه
- يعني ظئيره- فقالوا إن محمداً قد قتل. فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس:
أرى أثر المخيط في صدره". والظئير المرضعة وهي هنا حليمة كما هو معلوم.
الثانية : عند مبعثه ليتلقى ما يوحى إليه بقلب قوي في أكمل الأحوال من التطهير
قال الحافظ في الفتح عند شرحه لحديث باب المعراج
من البخاري قال: وثبت شق الصدر عند البعثة كما أخرجه أبو نعيم في الدلائل.
وقد ذكر هذه الشقة أصحاب السير.
والثالثة: عند الإسراء والمعراج ليتأهب للمناجاة. قال الحافظ ويحتمل أن
تكون الحكمة في هذا الغسل لتقع المبالغة في الإسباغ بحصول المرة الثالثة كما
تقرر في شرعه صلى الله عليه وسلم وقد ثبتت هذه المرة في الصحيحين وغيرهما.
وقال عبد العزيز اللمطي في نظمه قرة الأبصار في سيرة المشفع المختار :
وشق صدر أكرم الأنام
*وهو ابن عامين وسدس العام
وشق للبعث وللإسراء
*أيضاً كما قد جاء في الأنباء
وقد ختم الحافظ مبحثه في شق صدره صلى الله عليه وسلم وغسل قلبه بكلمة تحد
د واجب المسلم تجاه ما ثبت في هذا الصدد ونحن نختم بها جوابنا هذا قال الحافظ
:(وجميع ما ورد من شق الصدر واستخراج القلب وغير ذلك من الأمور الخارقة
للعادة مما يجب التسليم له دون التعرض لصرفه عن حقيقته لصلاحية القدرة فلا يستحيل شيء من ذلك).
والله أعلم.