فنادى في الظلمات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فلا شك أن تفريج الكربات هو أمر يسعى إليه الناس كلهم، لا سيما إذا حل بأحدهم كرب وهم وبلاء، ولقد ورد في كتاب ربنا جل وعلا بعض من الأدعية العظيمة التي كانت سببًا في تفريج كربة هي من أشد الكربات، ووقع فيها نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهو يونس بن متى عليه السلام، ففرج الله تعالى عنه كربه، ونجاه مما وقع فيه من عظيم الغم والكرب، وسنقف عند هذه الآية المباركة التي ورد فيها ذكر الموقف والدعاء الذي دعا به أحد الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام جميعًا؛ قال الله تعالى: ﴿
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنبياء: 87، 88].
يُخبر الله تعالى في هذه الآية المباركة عن قصة سيدنا يونس عليه السلام، عندما أرسله الله جل وعلا لدعوة قومه إلى الإيمان به سبحانه، فلم يؤمنوا وبقوا على كفرهم، فتوعدهم بالعذاب فلم يتعظوا، فغضب عليهم وخرج من بينهم، وظن يونس عليه السلام أن الله تعالى لن يضيق عليه بسبب خروجه من عند قومه، فابتلاه الله تعالى بأن التقمَه الحوت في بطنه،
فنادى حينئذ ربه سبحانه، معترفًا بخطئه وتقصيره في
الظلمات الثلاث، ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل، بقوله: «أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين»، فاستجاب الله تعالى له ونجاه من كربه الذي هو فيه، وخرج من بطن الحوت بسبب دعائه ومناداته لربه سبحانه.
وليس هذا الدعاء خاصًّا بيونس عليه السلام، فإن الله تعالى ينجي المؤمنين كذلك إذا استغاثوا به سبحانه، ولجؤوا إليه في حال أصابهم كرب وغم وبلاء، ففضل الله تعالى عظيم ورحمته وسعت كل شيء سبحانه.
وقد ذكر ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره قصة سيدنا يونس عليه السلام، فننقلها بتمامها.
قال ابن كثير: «هَذِهِ الْقِصةُ مَذْكُورَةٌ هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ "الصافاتِ" وَفِي سُورَةِ "ن" وَذَلِكَ أَن يُونُسَ بْنَ مَتى عَلَيْهِ السلَامُ، بَعَثَهُ اللهُ إِلَى أَهْلِ قَرْيَةِ "نينَوَى"، وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللهِ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ وَتَمَادَوْا عَلَى كُفْرِهِمْ، فَخَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ مُغَاضِبًا لَهُمْ، وَوَعَدَهُمْ بِالْعَذَابِ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَلَما تَحَققُوا مِنْهُ ذَلِكَ، وَعَلِمُوا أَن النبِي لَا يَكْذِبُ، خَرَجُوا إِلَى الصحْرَاءِ بِأَطْفَالِهِمْ وَأَنْعَامِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ، وَفَرقُوا بَيْنَ الْأُمهَاتِ وَأَوْلَادِهَا، ثُم تَضَرعُوا إِلَى اللهِ عَز وَجَل، وَجَأَرُوا إِلَيْهِ، وَرَغَتِ الإبل وفُضْلانها، وَخَارَتِ الْبَقَرُ وَأَوْلَادُهَا، وَثَغَتِ الْغَنَمُ وحُمْلانها، فَرَفَعَ اللهُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾ [يونس: 98].
وَأَما يُونُسُ عَلَيْهِ السلَامُ، فَإِنهُ ذَهَبَ فَرَكِبَ مَعَ قَوْمٍ فِي سَفِينَةٍ فَلَججت بِهِمْ، وَخَافُوا أَنْ يَغْرَقُوا، فَاقْتَرَعُوا عَلَى رَجُلٍ يُلْقُونَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ يَتَخَففُونَ مِنْهُ، فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى يُونُسَ، فَأَبَوْا أَنْ يُلْقُوهُ، ثُم أَعَادُوا الْقُرْعَةَ فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ أَيْضًا، فَأَبَوْا، ثُم أَعَادُوهَا فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ أَيْضًا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿
فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ﴾ [الصافاتِ:١٤١]؛ أَيْ: وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ، فَقَامَ يُونُسُ، عَلَيْهِ السلَامُ، وَتَجَردَ مِنْ ثِيَابِهِ، ثُم أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ، وَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنَ الْبَحْرِ الْأَخْضَرِ - فِيمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ - حُوتًا يَشُق الْبِحَارَ، حَتى جَاءَ فَالْتَقَمَ يُونُسَ حِينَ أَلْقَى نَفْسَهُ مِنَ السفِينَةِ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَى ذَلِكَ الْحُوتِ أَلا تَأْكُلَ لَهُ لَحْمًا، وَلَا تُهَشمَ لَهُ عَظْمًا؛ فَإِن يُونُسَ لَيْسَ لَكَ رِزْقًا، وَإِنمَا بَطْنُكَ لَهُ يَكُونُ سِجْنًا».
وبعد ذكر قصة سيدنا يونس عليه السلام، سأوضح تفسير الآية بشكل تفصيلي.
قال الله تعالى: (وَذَا النونِ)؛ أي: واذكر ذا النون وهو لقب ليونس بن متى عليه السلام، ولقِّب بهذا اللقب؛ لأن النون وهو الحوت ابتلعه في بطنه.
قال القرطبي: وقوله تعالى: (وَذَا النونِ)؛ أَيْ: وَاذْكُرْ "ذَا النونِ" وَهُوَ لَقَبٌ لِيُونُسَ بْنِ مَتى لِابْتِلَاعِ النونِ إِياهُ، وَالنونُ الْحُوتُ».
وقوله تعالى: ﴿
وذا النونِ إذْ ذَهَبَ مُغاضِبًا ﴾؛ أي: ذهب وخرج من عند قومه غاضبًا عليهم، لعصيانهم لأمره إياهم بالإيمان بالله جل وعلا.
قال الشوكاني عَنِ ابْنِ عَباسٍ في قَوْلِهِ: ﴿
وذا النونِ إذْ ذَهَبَ مُغاضِبًا ﴾؛ يَقُولُ: غَضِبَ عَلى قَوْمِهِ»، وابن جزي: ﴿
وَذَا النونِ ﴾ هو يونس عليه السلام، والنون هو الحوت، نُسب إليه؛ لأنه التقمَه، ﴿
إِذ ذهَبَ مُغَاضِبًا ﴾؛ أي: مغاضبًا لقومه؛ إذ كان يدعوهم إلى الله فيكفرون، حتى أدركه ضجر منهم فخرج عنهم...».
وقوله تعالى: ﴿
فَظَن أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ﴾؛ أي: ظن ألا نقضي عليه بعقوبة أو بلاء لغضبه من قومه وتركه إياهم.
قال الطبري عن ابن عباس: ﴿
فَظَن أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ﴾؛ يقول: ظن أن لن نقضي عليه عقوبةً ولا بلاءً فيما صنَع بقومه في غضبه؛ إذ غضب عليهم، وفراره وعقوبته أخذُ النون إياه».
وقوله تعالى: ﴿
فَنَادَى فِي الظلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِني كُنْتُ مِنَ الظالِمِينَ ﴾؛ أي: نادى يونس عليه السلام ربه سبحانه في
الظلمات الثلاث: «ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل».
قال ابن كثير: وَقَوْلُهُ: ﴿
فَنَادَى فِي الظلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِني كُنْتُ مِنَ الظالِمِينَ ﴾؛ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: ظُلْمَةُ بَطْنِ الْحُوتِ، وَظُلْمَةُ الْبَحْرِ، وَظُلْمَةُ الليْلِ.
وقوله تعالى: ﴿
أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِني كُنْتُ مِنَ الظالِمِينَ ﴾؛ أي: أقرَّ بالألوهية لله جل وعلا، ونزَّه الله سبحانه عن كل نقص وعيب، واعترف بذنبه ومعصيته وخطئه الذي صدر منه بغضبه على قومه وتركه إياهم، وقوله تعالى: ﴿
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجيْنَاهُ مِنَ الْغَم وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾: يُخبر الله تعالى أنه استجاب دعوة يونس عليه السلام عندما نادى ربه ودعاه، فنجاه من الكرب الذي وقع فيه، وكما نجا الله تعالى يونس عليه السلام من كربته وحبسه في بطن الحوت لَمَّا نادى ودعا ربه سبحانه، كذلك ينجي الله تعالى المؤمنين إذا استغاثوا بالله تبارك وتعالى، ولجؤوا إليه في حال أصابهم كرب وهم وغمٌّ وبلاء، ففضل الله تعالى عظيم، ورحمته وسعت كلَّ شيء.
قال الطبري: «يقول تعالى ذكره: ﴿
فَاسْتَجَنْا ﴾ ليونس دعاءه إيانا؛ إذ دعانا في بطن الحوت، ونجيناه من الغم الذي كان فيه، فحبسناه في بطن الحوت وغمِّه بخطيئته وذنبه، ﴿
وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾، يقول جل ثناؤه: وكما أنجينا يونس من كرب الحبس في بطن الحوت في البحر إذ دعانا، كذلك ننجي المؤمنين من كربهم إذا استغاثوا بنا ودعونا».
وإن هذا الدعاء الذي دعا به يونس عليه السلام بقوله: ﴿
لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِني كُنْتُ مِنَ الظالِمِينَ ﴾، لم يدع بها مسلم قط في كرب وهم وغم وحزن وبلاء، إلا استجاب الله تعالى دعوته، وكشف ما حلَّ به؛ لحديث سَعْدِ بْنِ أبي وَقاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ: «دَعْوَةُ ذِي النونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ: ﴿
لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِني كُنْتُ مِنَ الظالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 87]، فَإِنهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَط إِلا اسْتَجَابَ اللهُ لَهُ»؛ (صحيح سنن الترمذي؛ للألباني حديث: 2785).
هذا ما تيسَّر إيراده من تفسير لهذه الآية المباركة من كتاب الله تبارك وتعالى.
نسأل الله العلي الأعلى أن يكشف عنا كلَّ كربٍ وهمٍّ وغَمٍّ وبلاءٍ، وأن يرزُقنا السلامة والعفو والعافية في الدنيا والآخرة، والحمد لله رب العالمين.
الألوكة