إن خط الكتابة في الحضارات القديمة هي ثقافة تمارسها الشعوب من أجل أن تحفظ لنفسها تراثها وتاريخها وهي لغة تمارس عبر الكتابة بالحروف المركبة , وبدون الكتابة فقد تضيع أمور كثيرة لا تستطيع الأجيال أن تحتفظ بها في ذاكرتها فكان التدوين بالكتابة سبب في حفظ تاريخ الأمم من الضياع , وهناك من الأمم التي لا تمتلك أدوات الكتابة كالحروف اللغوية التي تترجم الأحداث والتاريخ إلى كلمات وجمل لتسطرها في الكتب , فتعمد إلى الرسم على صفحات الجبال والصخور لتتحدث عن تاريخها وهذه ثقافة صعبة وضيقة وغير معبرة تعبيرا دقيقا كالكتابة .
فكان من يملك ثقافة الحرف يملك الكتابة وهي ثقافة راقية عند الأمم المتحضرة التي تمتلك أرثا كبيرا ولا مجال لتدوين ذلك الإرث بغير الكتابة , فكانت أمتنا العربية أحدى الأمم التي برزت في الكتابة والتدوين وإن كانت البدايات بسيطة بين الأفراد ولكن مع الوقت بلغت مبلغا راقيا حيث دونت هذه الأمة الشيء الكثير من حضارتها بل حتى أشعارها المنتخبة والتي قامت بتعليقها في أقدس مكان لهم وهو جوف الكعبة نظرا لقيمتها البلاغية , وكان لهم اتفاقيات ومعاهدات قد أبرمت لحفظ حقوقهم , واستعملت كذلك الكتابة في الصلح بين القبائل للتوثيق ومنها صلح الحديبية الذي كان بين المسلمين وأهل مكة القرشيين .
ولقد كان بعض الصحابة يتقن فن القراءة والكتابة بل بعضهم تجاوز إلى فهم لغات أخرى كالسريانية لغة اليهود كمثل الصحابي الجليل زيد بن ثابت رضي الله عنه وكان ممن يستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم في مراسلاته للملوك في الدول المجاورة , وكان الصحابة يكتبون القرآن كلما نزلت سورة كتبوها في صحائف عندهم وحفظوها حتى جاء عهد أبو بكر الصديق رضي الله عنه وجمع ذلك المكتوب في مصحف واحد .
ولقد ذكر أسم القلم في كتاب الله , مرتين قال تعالى (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) القلم (1) , وفي أية أخرى قال تعالى (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) العلق (4) , فالقلم هو أداة الكتابة فكانوا قديما يقتطعون الأقلام من شجر القصب ثم يهذبون رأسه حتى يصلح للكتابة ويستخدمون الدواة لوضع الحبر فيها ثم يغمس القلم في الدواة ليكتب به ما يريدون , ولا تزال تستعمل هذه الطريقة في بعض البلدان النامية ولا يزال يستخدم الخطاطون المهرة هذه الأقلام في فن الخط , قال تعالى (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) العمران (44) , فكانت أقلام علماء بني إسرائيل هي الأداة التي استخدمت في القرعة لكفالة مريم بنت عمران , ومن فاز قلمه كان الكفيل لها فالقوا الأقلام في اليم فجرت الأقلام غير قلم واحد توقف فكان ذلك قلم زكريا عليه السلام وكان هو الكفيل لمريم عليها السلام حيث أنه زوج خالتها والخالة بمنزلة الأم , وهذه الآية شاهد على استخدام الأقلام في ذلك الزمن ولا تستخدم غالبا إلا للكتابة .
ويضرب الله سبحانه وتعالى الأمثال في كتابه الكريم عن سعة علمه وكيف أن علمه ممتد وليس له حد يحده , قال تعالى (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) الكهف (27) , فلا قدرة لأحد أن يكتب كلام الله ليحصيه ولو سخرت له كل أشجار الدنيا لتصبح أقلاما وفي الجانب الأخر سخرت له مياه البحار لتكون حبرا ومن ورائها بحار كثيرة تمده على أن تحصي كلمات الله وعلم الله فلن تحصيه وستعجز الأقلام عن ذلك , فلذلك يجب التسليم بقدرة الله وعظمة الله أنه لا يبلغ حده أحد من خلقه سبحانه العزيز الحكيم .
ولقد أرشد الله الإنسان لكي يستفيد من الكتابة بالقلم ليوثق ويدون حقوقه فلا تضيع عليه مهما بلغت , وهذا العمل هو زيادة في الحفظ وأبلغ في إقامة الحجة فإن الإنسان ينسى مع الزمن والشهود قد يموتوا فتضيع معهم شهادتهم ولكن الوثائق إذا حفظت تدوم عشرات السنين وتتناقلها الأجيال بما فيها من مكتوب , يقول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ) البقرة (282 ) , وبالكتابة تتحقق العدالة في حفظ الممتلكات والحقوق وتكون الوثائق هي البينة على الممتلكات.
وكذلك من أم الكتاب تستنسخ الملائكة أقدار الناس لتجري عليهم مقاديرهم من أرزاق وذرية وأحداث تقع عليهم وغيرها من قدر يقول الله تعالى (هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) الجاثية (29) , وفي صحيح البخاري في قصة المعراج " قال النبي صلى الله عليه وسلم ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام " , ولقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت أقلام الملائكة وهي تستنسخ كل ما يجري على الخلق ولتلك الأقلام صوت مسموع , وقد أمر الله القلم الأول أن يكتب كل ما أراد الله أن يكون جاريا ومقدرا على خلقه حتى تقوم الساعة , ففي الحديث الذي رواه عبادة بن الصامت قال , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أول ما خلق الله القلم فقال اكتب قال و ما أكتب يا رب . قال اكتب القدر قال فجرى القلم في تلك الساعة بما كان و بما هو كائن إلى الأبد " , صححه الألباني .
وكل ملك من الملائكة الكتبة له من الأقلام ما يكتب بها أعمال ابن أدم إلا من استثنى من عباده , روي في صحيح الجامع عن على بن ابي طالب قال , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم , رفع القلم عن ثلاثة : عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ ، و عن النائم حتى يستيقظ ، و عن الصبي حتى يحتلم " صححه الألباني , والكتبة من الملائكة تصاحب الإنسان في كل مكان ولا تفارقه إلا أن يدخل الخلاء أو إذا جامع أهله فهي تعتزله ولكن لا تغفل عن شيء يصنعه فكاتبه على يمينه يدون حسناته وكاتبه عن شماله يدون سيئاته ثم ترفع أعماله وتعرضه على الله كل أثنين وخميس , ومن رحمة الله أن الملك يتأخر في كتابة السيئة ست ساعات لعل المذنب يستغفر الله فإن أستغفر تركت ذلك الذنب فلم تسجله عليه وإن لم يستغفر سجلته سيئة واحدة , كما ذكر صاحب السلسلة الصحيحة بسند حسن عن أبي أمامة الباهلي قال , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن صاحبَ الشمالِ ليرفعُ القلَمَ ستّ ساعاتٍ عن العبدِ المسلمِ المخطِيء أو المسِيء ، فإن ندمَ واستغفرَ اللهَ منها ألقاهَا وإلا كتبَ واحدةً " , حسنه الألباني .
إن فن الكتابة في زمننا هذا أصبح منتشرا بكثرة عجيبة ولم يسبق له بمثل هذا الانتشار من قبل , فالكتب والصحف اليومية والنشرات الشهرية والمجلات تطبع وتوزع في كل مكان وبأعداد رهيبة وتكتب بمطابع آلية حديثة لا تمسها الأيدي والأقلام المعتادة , ومن كثرة أنتاج ذلك المكتوب فلا تستطيع حصره ولا قراءته, وأصبح لبيع الكتب أماكن مخصصة كبيرة وتعد من التجارة الرابحة والمدرة للمال الكثير, وهذا مما أخبر به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم , فقد صحح الألباني في الأدب المفرد عن عبدالله بن مسعود قال, قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم " بين يدي الساعة : تسليم الخاصة ، و فشو التجارة حتى تعين المرأة زوجها على التجارة ، و قطع الأرحام ، و فشو القلم ، و ظهور الشهادة بالزور ، و كتمان الشهادة الحق " , وذكر الحديث( فشو القلم ) كناية عن كثرة الكتابة بالقلم وانتشار الكتب والمطبوعات وانتشار العلم .
على كل صاحب قلم من الذين يسر الله لهم الكتابة في أي مجال من مجالات العلم أن يتقوا الله فيما يكتبون وأن يساهموا في نشر الخير بين الناس وليعلموا أن الأقلام ثلاثة قلم خير ودعوة في سبيل الله وقلم شر في سبيل الطاغوت وقلم لهو لا يضر ولا ينفع يقول الله تعالى في التحذير من كتابة الشر (فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ ) البقرة (79) , فاجعل أخي المسلم قلمك في الخير وفي نفع الناس وفي محاربة الشر وتقليله حتى تنال رضى الله , فكم من أناس سخروا أقلامهم وكلماتهم لنشر الفساد ومحاربة الدين وكأنهم لا يعلمون أن ذلك كله مسطر عند الله وستنشر صحائفهم في المحشر , فليتق كل واحد منا ربه ويعمل صالحا قبل يوم الحساب ...والحمد لله رب العالمين .
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
جزاك الله عنا خير الجزاء والمثوبه
احسنت الاختيار موضوع في قمة الروعه
لطالما كانت مواضيعك متميزة
لا عدمنا المميز و روعة الإختيار
دمت لنا ودام تألقك الدائم
وجزيل الشكر لك على المجهود
أنشودة الأمل