بوتفليقة يضعف جهاز المخابرات لصالح تقوية قايد صالح
الجزائر - فتيحة بوروينة
ما بين الإقالة أو الإستقالة أو الإحالة على التقاعد، يرحل رئيس جهاز المخابرات الجنرال محمد مدين المعروف أكثر باسم "توفيق"، الرجل الأقوى في الجزائر على الأقل في فترة ال 25 سنة الماضية وهو يترك وراءه استفهامات يلفّها الغموض بشأن هل دُفع الرجل إلى تحرير طلب الاستقالة بعدما جردّ الرئيس بوتفليقة جهازه من كامل صلاحياته الحيوية؟ أم أبعد من منصبه بفعل خلافات وصلت إلى طريق مسدود بينه وبين بوتفليقة تتعلق أساسا باستمرار الأخير من عدمه في الحكم بسبب توعكه الصحي؟.
من يروّض الآخر؟
سرعان ما انقسمت القراءات بشأن رحيل الجنرال توفيق من على رأس دائرة الاستعلام والأمن (المخابرات) إلى رأيين، أحدهما يرى أن إنهاء مهام الجنرال يندرج في إطار التعديلات العادية التي باتت تمس مختلف القطاعات الأمنية والسياسية والاقتصادية التزاما بالإصلاحات التي وعد بوتفليقة بإحداثها منذ 2011 ومنها إعادة هيكلة جهاز المخابرات وتعديل الدستور، فيما الرأي الثاني لا يتردّد في التأكيد أن ما جرى يدخل في سياق صراع بين مؤسستي الرئاسة والمخابرات، ظل كل طرف يبحث فيه منذ العام 1999، تاريخ اعتلاء بوتفليقة الحكم، عمن يروضّ الآخر، هذا علما أن الجنرال "توفيق" الذي ظل اسمه مقرونا ب"الديوان الخفي" الذي يصنع الرؤساء، هو من جاء بالرئيس بوتفليقة إلى الجزائر بعد سنوات من تجوال الأخير في العالم بعد وفاة الرئيس هواري بومدين العام 1978 وكان ذلك مباشرة بعد نعييه في خطاب جنائزي تاريخي بمقبرة العالية بالعاصمة الجزائر.
إقالات متتالية لإضعاف الخصم
والحقيقة أن المتتبّع للأحداث خلال الثلاث سنوات الماضية، يدرك أن إنهاء مهام الفريق محمد مدين الموجود على رأس الجهاز منذ سبتمبر 1990، كان مرتقبا، وأن نقطة الوصول إليها كانت وشيكة بعدما راح الرئيس بوتفليقة مباشرة بعد عودته من رحلة العلاج بفرنسا صيف 2013 يصدر قرارات تلو الأخرى انتهت بتفريغ جهاز المخابرات من مديرياته الحيوية وتجريده من كل ما يمكن أن يجعله قوة رادعة في مواجهة بوتفليقة ومحيطه القريب.
بعض هذه القرارات أحدثت ضجة كبيرة في وسائل الإعلام وبالأخص بعد حلّ مصلحة التوثيق والإعلام (الدياراس)، العصب الحيوي لجهاز المخابرات الذي كانت له سطوة على الإعلام الحكومي وبعض الإعلام الخاص وعلى الأمن في الوزارات والمؤسسات الحكومية، وتحويل مصالح أخرى مثل أمن الجيش والشرطة القضائية العسكرية من قيادة المخابرات الى قيادة أركان الجيش الموجود على رأسها الفريق قايد صالح، أحد أهم رجالات بوتفليقة، فضلا عن إقالة عدد من الموالين للجنرال في المؤسسة الأمنية العسكرية على رأسهم العقيد "فوزي" مسؤول مصلحة التوثيق والإعلام، والاستغناء عن خدماته على خلفية إخفاقه في تسيير ملف مرض الرئيس خلال غيابه عن البلاد فترة تواجده بمستشفى فال دوغراس بفرنسا، واللواء "عبدالحميد بن داود" مدير مكافحة التجسس واللواء "مولاي ملياني" قائد الحرس الجمهوري واللواء "مجدوب كحال" مدير الأمن الرئاسي.
سعداني في مواجهة توفيق
لعب الحزب الحاكم "جبهة التحرير الوطني" الذي يرأسه شرفيا الرئيس عبد العزيز بوتفليقة دورا مهما في (تهرئة) صورة الجنرال توفيق، وجعله مادة دسمة (شماعة) في الإعلام وهوالذي لم يجرؤ أحدٌ قبل 25 سنة من ذكر اسمه أو نشر صورته أو انتقاد أدائه، وهذا بعدما فتح عمار سعداني، الأمين العام للحزب المحسوب على محيط الرئيس بوتفليقة، النار على رئيس المخابرات ونسب إليه كل إخفاقات البلاد في حوار تاريخي لم يسبقه إليه أحد، وكان ذلك مؤشرا على أن الصراع بين مؤسستي الرئاسة والمخابرات رمِي به إلى العلن.
ولم يتوقف سعداني عند هذا الحد بل راح في مؤتمر صحفي كبير يقول "إذا كانت دائرة الاستعلام والأمن (المخابرات العسكرية) هي من تصنع كل شيء حاليا، فلن تستطيع أن تفعل كل شيء في المستقبل في إطار الدولة المدنية". بوتفليقة سلطة مطلقة
كانت آخر فصول الصراع العلني بين جهازي الرئاسة والمخابرات، أسابيع فقط قبل سقوط خبر "إحالة الفريق محمد مدين على التقاعد" مثلما أورد بيان الرئاسة، توقيف الجنرال "عبد القادر آيت وعراب" المعروف أكثر باسم "حسان"، مسؤول مديرية مكافحة الإرهاب بدائرة الاستعلام والأمن بجهاز المخابرات، والزج به في السجن العسكري بالبليدة (50 كلم إلى الغرب)، حيث عرف عن الرجل قربه الشديد للجنرال توفيق، فكلاهما اشتغلا على ملف الإرهاب لفترة ال20 الماضية.
ولا يزال الجنرال حسان رهن الحبس، خلافا لما أوردته صحف محلية استنادا إلى مصادر أمنية مطلعة، من المرتقب أن يمثل الرجل أمام المحكمة العسكرية في الأيام القليلة المقبلة بتهم خطيرة قد تكلّفه الإعدام ويتعلق الأمر ب"التمرد وتشكيل مجموعة مسلحة مرورا بامتلاك أسلحة نارية وإخفاء معلومات".
وسيمهّد قرار الرئيس بوتفليقة إحالة الجنرال توفيق على التقاعد، أي إبعاده عن دوائر الحكم، لمرحلة سياسية جديدة، سيكون فيها محيط الرئيس وحده (المركز المطلق) للقرار أعلى هرم السلطة، وهوما كان يرغب في تحقيقه الرئيس بوتفليقة ولم يتحرج من إعلانه في أول ظهور له العام 1999 بعد وصوله إلى الحكم عندما قال "لا أريد أن أكون ثلاثة أرباع رئيس" وكانت الرسالة موجهة آنذاك للفريق محمد مدين الذي ألصقت به عبارة "صانع الرؤساء" ولثلة العسكريين النافذين الذين دأبوا على أن تكون لهم الكلمة الأولى والأخيرة في الشأن السياسي المتعلق بمصير البلاد مثلما ظل عليه الحال منذ الاستقلال إلى اليوم وهوما يعرف محليا بجدلية الصراع بين السياسي والعسكري.
وسام الشجاعة للتوديع
الحقيقة أن تحاليل المراقبين تنبأت (نهاية) الجنرال على يد الرئيس بوتفليقة، الذي صار غريم محمد مدين منذ قرر الترشح لعهدة ثالثة رغم اعتلاله الصحي، وذهابه إلى حد تعديل الدستور جزئيا العام 2008 ليطال فقط المادة 74 التي تتعلق بالعهدات الرئاسية فيصيرّها مفتوحة ويلغي تقييدها بولايتين رئاسيتين اثنتين.
ويبدو أن إسداء "محمد مدين" وسام الشجاعة "في حفل توزيع الرتب شهر يوليو الماضي بمناسبة استقلال البلاد، كان بمثابة الشكر (الختامي) الذي وجهّه الرئيس بوتفليقة للجنرال نظير الخدمات التي قدمها للجزائر خلال أحلك فترات تاريخها المعاصر تمهيدا لإحالته على التقاعد، أي التخلص منه كواحد من أهم العقبات التي كانت تقف أمام مساع تمديد حكم الرئيس رغم اعتلاله الصحي وظهوره على الشاشة فوق كرسي متحرك وعدم مخاطبة شعبه منذ ديسمبر 2012 إلى اليوم.
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك