لما خرج موسى بأهله من مدينة مدين، انطلق طلق الطلق بزوجته فما زال يكادح المقادح فلم تور،
لأن عروس نار الطور لما همت بالتجلي، نوديت النيران بلسان الغيرة من المشاركة
" غضى " فقام على أقدام التحيرة، فهتف به أنيس " آنس " فأنس:
يا حار إن الركب قد حاروا ... فاذهب تجسس لمن النارُ
تبدو وتخبو إن خبت وقفوا ... وإن أضاءت لهم ساروا
فشمر موسى عن ساق القصد وساق، فلما أتى النادي " نودي " فحين ذاق لذة التكليم، جرح قلبه نصل الشوق، فلم يداوه إلا طبيب " وواعدنا " .
-----------------------------
ليالينا بذي الأثلاث عودي ... ليورق في ربى الأثلاث عودي
فإن نسيم ذاك الشيح أذكى ... لديَّ من انتشاقي نشر عودِ
وإن حديثكم في القلب أحلى ... وأغيب نغمة من صوت عودِ
فبعث في حرب فرعون، فلم يزل مشغولاً بالجهاد، إلى أن قبر القتيل في لحد اليم، فطلب قومه كتاباً يضبط شاردهم ويرد نادهم، فأمره الله أن يصوم ثلاثين ليلة، نهاره وليله فأمسك على مسك الإمساك بكف الكف في الوصال، فدام فِدامُ فيه عن مطمع المطعم، فقيد فقيد قوت الوقت، فصار في قيء ذكر الوعد، فما انقضت الليالي حتى انقضت ظهر البصر، فقام لتراى جلال الوفاء بالأمر، فلاح في مطلع فلاح القصد، فبادر يسعى على أقدام الحب، إلى زيادة ربع الحب، فكاد يقله قلقلة الوجد، فوجد الهواء متغير الريح، في عرضة الفم، فصاح به فصيح لسان الحزم من وراء رأي العزم: يا موسى غير أثراً لازم، فتناول مضغة من النبات فمضغها، فقيل له: أيها الصائم عن أمرنا، لم أفطرت برأيك؟ فقال: وجدت لفمي خَلوفاً، وما أردت بفعلي خلافاً، فقيل: ما علمت أن فور فورة الخلوف من قدر الإمساك، أطيب عندنا من فارة فارة المسك، إنا لننظر إلى قصد الفاعل لا إلى صورة الفعل، الدم نجس مجتنب، لكنه في حق الشهيد شهي " زملوهم بكلومهم ودمائهم " فرجع موسى عاكفاً على معتكف كف كفه " فتم ميقات ربه " وأحضر حظيرة القدس، فنسي الأنس، مما آنس من الأنس:
فكل شيء رآه ظنه قدحاً ... وكل شخص رآه ظنه الساقي
فلما دارت في دائرة دار الحب كؤوس للقرب، وسمع النداء وسط النادي بلا واسطة، وسيط له من وسيط أقداح المنى في المناجاة بلا وسيط، طاب له شراب الوصال من أوطاب الخطاب، في أواني سماع الكلام، فناداه توق شوقه:
أوان أنت في هذا الأوان ... عن الراح المروق في الأواني
رأى على الغور وميضاً فاشتاق، ما أجلب البرق لدمع الأماق فصاح لسان الوجد " أرني " فرد شارد شحذان الشوق على الطوى بطوق " لن تراني " إلا أن جزع الفطام سكن شعله بتعلة " ولكن " فلما تجلى جل جلاله للجبل مر، فخر موسى في بحر الصعق فرقاً، فرقي فرقه ذروة " سبحانك تبت إليك " ما انبسط موسى يقول أرني إلا ببسط، سلني ولو ملح عجينك، ولو تركه مع رعيه الغنم في شعب شعيب لما جال في ظنه ذلك الطمع، ولكنه استدعاه بالنداء، وآنسه بالتقريب، وباسطه بالتكليم.
فلما عاين الحيرة ... حادى جملي حارا
كان موسى يطوف في بني إسرائيل، ويقول من يحمّلني رسالة إلى ربي؟ ما كان مراده إلا أن يطول الحديث مع الحبيب:
فقلت له رد الحديث الذي انقضى ... وذكراك من ذاك الحديث أريدُ
يحدد تذكار الحديث مودتي ... فذكرك عندي والحديث جديدُ
أناشده ألا أعاد حديثه ... كأني بطيء الفهم حين يعيدُ
مات موسى قتيل شوق " أرني " فلما جاز عليه نبينا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، ردده في الصلوات، ليسعد برؤية من قد رأى:
وإني لآتي أرضكم لا لحاجة ... لعلي أراكم أو أرى من يراكم
إن تشق عيني فطالما سعدت ... عين رسولي وفاز بالنظر
وكلما جاءني الرسول لهم ... رددت شوقاً في طرفه نظري
تظهر في طرفه محاسنهم ... قد أثرت فيه أحسن الأثرِ
خذ مقلتي يا رسول عارية ... فانظر بها واحتكم على بصري
؟الفصل الخامس عشر
في قصة الخضر عليه السلام
-----------
لما علا شرف الكليم بالتكليم كل شرف، قال له قومه أي الناس أعلم؟ فقال: أنا. ولم يقل فيما أعلم، فابتلي فيما أخبر به واعلم، فقام بين يدي الخضر، كما يقوم بين يدي السليم الأعلم، فابتدأ بسؤال " هل أتبعك " فتلقاه برد " لن " وكم أنّ موسى من لن. أمر قومه بالإيمان فقالوا " لن نؤمن " وقعوا في التيه فقالوا " لن نصبر " ندبوا إلى الجهاد فصاحوا " لن ندخلها " طرق باب أرني فرده حاجب " لن " ، دنا إلى الخضر للتعلم فلفظه بلفظ " لن " ثم زاده من زاد الرد بكف " وكيف تصبر " فلما سامحه على نوبة السفينة، وواجهه بالعتاب في كرة الغلام، أراق ماء الصحبة في جدال الجدار " هذا فراق بيني وبينك " ثم فسر له سر المشكل، فجعل يشرح القصص فصلاً فصلاً، بمقول قائل يقول فصلاً، وكلما ذكره أصلاً أصلى، لم يبق لموسى عين تراه أصلاً، وكلما سل من حر للعتاب نصلاً، صاح لسان حال موسى: كم نصلى؟ فألقى تفسير الأمور على الكليم وأملى، والقدر يقول: أهو أعلم أم لا؟ فعلم موسى ويوشع أي عبد أمّا منذ ابتدأ بالشرح بأمّا، ثم أخذ لسان العتاب، يذكر منسى موسى، أتنكر خرق سفينة؟ لظاهر إفساد تضمن ضمنه صلاح " ولكم في القصاص حياة " أو تنكر؟ إتلاف شخص دنى لإبقاء دين شخصين؟ أو كرهت إقامة الجدار، لشح أهل القرية بالقرا أفاردت من الأصفياء؟ معاملة البخلاء بالبخل، أما تلمحت سر؟ صل من قطعك، لقد أنكرت ما جرى لك مثله، حذرت يوم السفينة من الغرق، فصحت بإنكار " أخرقتها " أنسيت يوم؟ " فألقيه في اليم " أنكرت قتل نفس بغير نفس، أنسيت يوم؟ " لو كره " نهيت عن عمل بلا أجر، أنسيت يوم " فسقى لهما " فلما بان البيان، خرج الخضر من باب الدعوى، وأخرج يده من ملك التصرف وأحال الحال على الغير " وما فعلته عن أمري " .
وهذه القصة قد حرضت على جمع رحل الرحيل في طلب العلم، وعلمت كيفية الدب في كف كف الاعتراض على العالم، وصاح فصيح نصيحها بذي اللب: دع دعواك فعلى دعوى الكليم ليم، وفوق كل ذي علم عليم.
المصدر.؟
المدهش لابن القيم رحمه الله
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك