منزلة
الوالدين في الشرع
إن للوالدين
منزلة عظيمة في
الإسلام ويكفي في ذلك أن الله قد أوصى بهما في مواضع مختلفة من القرآن الكريم , قال تعالى (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) الأنعام (151) , فحرم الله الشرك وأمر بالإحسان للوالدين , وجاء ذكرهما متعاقبا في الآية لعظم أثم الشرك بالله وعظم أثم عقوق
الوالدين ومنه ترك الإحسان إليهما , وقال تعالى (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ) الأسراء (23) , وجاء في هذه الآية الأمر بتوحيد الله في العبادة والإحسان للوالدين وكلاهما عند الله عظيم , وذكر كذلك أقل درجات عقوق
الوالدين وهو قول القائل كلمة أف , فلا يجب على المسلم أن يتضجر من كلامهما أو تصرفاتهما مهما بلغت , فكيف بمن يعنفهما بأغلظ من ذلك أو يتجاوز إلى ما هو أسوء من القول أو الفعل .
إن الإنفاق على
الوالدين مقدم على الإنفاق على غيرهما من الناس , فعلى من وهبه الله المال أن لا يقدم عليهما أحدا في النفقة فيبدأ بهما ثم يعطي الآخرين , بل حتى لو أراد أن يهدي فحقهما أوجب ومقدم على غيرهم من الناس , قال تعالى (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ۖ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) البقرة (215) , فالنفقة الواجبة والصدقة والهدية كلها تدخل تحت الأنفاق , فلا ينفع أن تمتد يدك بعيدا وتترك أبواك فقيران محتاجان لا ينتفعون بما أتاك الله من سعة في الرزق , بل العدل أن تقدم القريب في الدم وأقرب القريب هما الوالدان .
إن الوالدان لا يعدلهما مخلوق من البشر فهما أصل لكل مولود وأنت تنحدر من سلالتهما وكذلك أبنائك , و طاعتهما في الخير والإحسان إليهما لا يسقطه شيء حتى بتغير الدين , فلو كنت على ملة
الإسلام وأبواك على غير ذلك فإن حق الأبوة لا يسقط ببقائهما على الكفر , فتبقى المودة والإحسان والنفقة والرعاية على حالها حتى ولو أظهرا لك الكراهية والبغضاء لمعتقدك , قال تعالى (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) لقمان ( 15) , فلا طاعة لهما في قضايا الإيمان ولكن المسائل الأخرى التي تتعلق بالرحمة والإحسان والمعروف فيجب على الأبناء الوفاء بها حتى الممات , وهذا من عظم عدالة هذا الدين العظيم فلا يقطع أواصر الصلة بين
الوالدين والأبناء وإن تعارضت العقائد فالله هو الحكم يوم القيامة , فعن أسماء بنت أبي بكر قالت : أتتني أمي راغبةً ، في عهدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فسألتُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: آصِلُها ؟ قال: نعم. قال ابنُ عُيينةَ: فأنزل اللهُ تعالى فيها: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين . رواه البخاري . وراغبة أي تريد أن تصلني وتزورني وهي على الشرك.
إن الوالدان سبب من أسباب وجود الأبناء فهما مشتركان في هذا العمل المقدر , فالله خلق الإنسان من تمازج بين ماء الرجل و ماء المرأة , قال تعالى (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (45) مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) النجم , وقال تعالى (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) الطارق , فالصلب عظام ظهر الرجل الذي ينحدر منه ماء الرجل , أما الترائب فهي عظام صدر المرأة التي ينحدر منه مائها , ويجتمع ذلك في رحم المرأة ليكتب الله نشأة الحياة لجنين جديد , قال تعالى (أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) المرسلات , والقرار المكين هو رحم المرآة , فإذا نظرت لوالديك فتذكر نعمة الله عليك فأنت امتداد لهما وجزء من أجسادهما فكيف تتنكر لهما أو تترفع عنهما فلولا الله ثم أبواك ما كنت ولم تكن في الحياة الدنيا .
إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوصى بالوالدين وبالغ في ذلك عن باقي القرابة , فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجلٌ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ اللهِ ، من أحقُّ الناسِ بحُسنِ صَحابتي؟ قال: أُمُّك. قال: ثم من؟ قال: ثم أُمُّك. قال: ثم من؟ قال: ثم أُمُّك. قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك.رواه البخاري , فانظر كيف كرر ذكر حق الأم ثلاثا ثم الأب مرة واحدة ولم يدخل بينهما أحدٌ من القرابة , وهذا يدل على منزلتهما العظيمة التي لا يبلغها أحد , ولا يعني هذا الحديث أن لا يصل الرجل قرابته الآخرين بإحسان ولكن لا يقدم على والديه أحد .
ومن الأمور التي تبين تميز
الوالدين في الحقوق عن باقي الأقارب أنهما لهما حق في أموال أبنائهم ولهم أن يأخذوا من أموالهم بقدر حاجتهم من غير استئذان وليس للأبناء طلب إعادة ما أخذوه منهم , وليس للأبناء مثل ذلك الحق في أموال أبائهم , فقد صحح الألباني في سنن ابن ماجه عن عبدالله بن عمرو أنه قال : جاءَ رجلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ فقالَ إنَّ أبي اجتاحَ مالي فقالَ أنتَ ومالُكَ لأبيكَ وقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ إنَّ أولادَكم من أطيبِ كسبِكُم فَكلوا من أموالِهم " . وهذا الحق لا يملكه أحد إلا الوالدان , فليس للعم ولا للخال ولا للأخ هذه الميزة ولا لباقي القرابة , بل حتى في الدماء فلو وقع شجار بين الأب وأبنه وقُتل الابن فلا قصاص على الأب إلا الدية , ولو وقع العكس أن قُتل الأب بيد الابن فالقصاص يقع إلا أن يقع الصلح والتنازل من قرابة الأب , فقد جاء في سنن ابن ماجه عن عبدالله بن عمرو أنَّ أبا قتادةَ رجلٌ من بني مُدلِجٍ قتلَ ابنَهُ فأخذَ منْهُ عمرُ مائةً منَ الإبلِ ثلاثينَ حِقَّةً وثلاثينَ جذعةً وأربعينَ خِلفةً فقالَ ابنُ أخي المقتولِ سمعتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ يقولُ ليسَ لقاتلٍ ميراثٌ . صححه الألباني , وكذلك في أرواء الغليل عن عبدالله بن عمرو وابن عباس أنهما قالا , قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يُقْتَلُ والدٌ بولدهِ " . صححه الألباني .
إن
منزلة الوالدين رفيعة والبر بهما واجب شرعي والإحسان إليهما من المروءة والخلق الحسن بل أرفع من
منزلة الجهاد في سبيل الله , فعن عبدالله بن عمرو قال : أقبل رجلٌ إلى نبيِّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال : أُبايِعْك على الهجرةِ والجهادِ ، أبتغي الأجرَ من اللهِ . قال " فهل من والدَيك أحدٌ حيٌّ ؟ " قال : نعم . بل كلاهما . قال " فتبتغي الأجرَ من اللهِ ؟ " قال : نعم . قال " فارجِعْ إلى والدَيك فأحسِنْ صُحبتَهما " رواه مسلم . وهذا يكون خاصة مع كثرة المجاهدين في سبيل الله ولم يتعين من قبل الإمام على الجميع النفير العام فإن بر
الوالدين مقدم .
ولا يستطيع أحد أن يكافئ والديه ويرد جميلهما إلا أن يراهما قد وقعا في الأسر فيفديهما بنفيس ماله فيحررهما من الأسر أو العبودية , أما غير ذلك فلن يبلغ جزائهما مهما فعل , فكيف بمن يعاملهما معاملة قاسية أو يلقي بهما في دور الرعاية ليتخلص من برهما , فهذا لا شك أنه قد ظلم نفسه وتعدى حدود الله وسيجد عقابه في الدنيا قبل الآخرة , أما من قام بما أمر الله به من واجب شرعي وإحسان فسيجد من يبر به في كبره ويدعو له بعد مماته والجزاء من جنس العمل , قال تعالى (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) الإسراء(24) , أسأل الله أن يغفر لمن مات من أبائنا وأن يوفقنا لبر من كان منهم على قيد الحياة ... والحمد لله رب العالمين .