إن الله قد حث عباده المؤمنين في مواضع كثيرة من القرآن الكريم على التزام
التقوى , وجعله مثالا مضيئا ليحتذوا به وليجعلوه صراط مستقيما ونهجا صالحا في طريقهم إلى الجنة , قال تعالى (وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ) البقرة(197) , أي اجتنبوا عقابي يا أهل العقول الراجحة وذلك بفعل الأعمال الصالحة والتزود بها فهي زادكم الصالح قبل الممات , وقال تعالى في آية أخرى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) المجادلة (9) , والتناجي هو التحادث مع الآخرين بصوت منخفض حتى لا يسمعه الناس , فكان الأمر أن يكون التناجي بما فيه خير ينفع المتناجين في الآخرة , والتناجي بالبر هو التواصي بأعمال البر كبر الوالدين وصلة الأرحام أما التناجي بالتقوى فهو التواصي بفعل الأعمال الصالحة بشتى أنواعها والحث عليها .
وقد يتساءل المسلم هل
التقوى ينحصر معناه في الورع كما يفهم البعض على أن
التقوى هو اجتناب الوقوع في مواطن الريبة ومواضع الشك , أم هو عنوان أوسع من ذلك بكثير والورع ليس إلا جزء يسير من منظومة
التقوى , إن
التقوى هو خوف العبد من أن ينتهك شيئا من محارم الله وكذلك الخوف من أن لا يمتثل أوامره ويفعل ما أوجب الله عليه , ويدخل في ذلك فعل كل أمر أوجبه الله في شريعة الإسلام وكذلك كل نهي حذر الله من الوقوع فيه , فمن فعل كل ما أمر الله به من واجب وتزود معها بالنوافل المختلفة فهو مؤمن متقي , ومن ترك ما حذر الله منه من محرم وهجر كل مكروه فهو مؤمن متقي , ومن جاء بشرائع الدين يتتبع فعلها على الوجه الصحيح موافقا للسنة الصحيحة فهو مؤمن محسن متقي ويكون بين صفوف المرضيين , قال تعالى (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) التوبة(100), فالسابقون هم مؤمنون محسنون متقون فعليك بالدخول في مضمار المسابقة حتى تظفر بتلك المنازل كما ظفر بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إن من جعل بينه وبين عذاب الله حاجزا بطاعة الله فيما أمر وترك ما نهى عنه وزجر فقد أتقى الله , قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) البقرة ( 102 ) وأعظم وقاية تجعلها بينك وبين عذاب الله هو أن تحيا وتموت على التوحيد ملة الإسلام , أما من مات على الكفر والضلال والشرك فقد عرض نفسه للعذاب والخلود في النار , قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ (162) البقرة , وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) التحريم(6) , فالمراد من
التقوى هو النجاة من النار وذلك بالحذر من الوقوع في المعاصي والاجتهاد في فعل الأعمال الصالحة للنجاة من عذاب الله , فمن أجتهد في جمع الحسنات واجتناب السيئات فقد وقى نفسه من النار, ومن أعرض عن أوامر الله فقد أوبق نفسه وكان من الخاسرين , قال تعالى (وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ ) الشورى(45).
إن
التقوى سبب عظيم من أسباب دخول الجنة , قال تعالى (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ ) ال عمران(198) , وقال تعالى (مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ) الرعد(35) , وقال تعالى (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ ) الزمر(20) , وقال تعالى (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ) الزمر(73) , فهذا مآل كل متقي .
فمن أجل أن تكون متقيا لله خاشعا منقادا له فعليك استحضار عظمة الله في قلبك وأن تستيقن أنه مطلع عليك في سرك وعلانيتك , قال تعالى (لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) البقرة (284) , وقال إبراهيم عليه السلام وهو مقر بعلم الله وقدرته (رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء ) إبراهيم (38) , فعلمه يدرك أحاديث النفس وخفايا القلوب.
إن الذي يجعل الناس يقعون فيما يغضب الله هو عدم معرفتهم بالله حق المعرفة ولذلك لا يقدرونه حق قدره , قال تعالى ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) الزمر (67) , فلو تأمل الناس آيات الله الظاهرة التي يبصرها في الكون ومنها السماء والأرض والشمس والقمر والنجوم والسحاب والغيث وغيرها من آيات عظيمة لعظم الله حق تعظيمه ولأحدث ذلك وقارا وإجلالا لله في قلبه , قال تعالى ( مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) نوح , فمن تدبر آيات الله عظمت مكانة الله في قلبه وزاده ذلك التدبر إيمانا ومحبة لله فصار بين صفوف المتقين .
إن على المسلم أن يكثر من العمل الصالح حتى يكون أهلا لأن يندرج في منازل المتقين وليس الأمر يدرك بالأماني بل عليه أن يعمل ويخلص فيما يعمل لعله يوفق إلى ذلك, قال تعالى (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) البقرة(177) , فمن أجل أن تكون صادقا في طلب
التقوى فعليك بالعمل الصالح وطلبه في كل جانب لعل الله يبلغك تلك المراتب , قال تعالى (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) العنكبوت(69) , ومن قدم مثل تلك الأعمال في الدنيا فإن الله يرفعه فوق الخلق يوم القيامة , قال تعالى (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ) البقرة (212) .
إن طالب العلم إذا أراد أن يسلك طريق العلم فعليه أن يبدأ أولا في تحقيق منزلة
التقوى من أجل أن يتيسر له العلم ويفتح الله عليه ما لم يكن بالحسبان من أبواب العلم ويوفق في طلبه للصواب , قال تعالى (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) البقرة(282) , وعلى المؤمن الصادق كذلك أن يتقي الله في كل أحواله فإذا استزله الشيطان في ذنب من الذنوب فعليه أن يستغفر ويتوب ويعود إلى سيرة الصالحين ولا ينخلع من دينه بل يعاود الرجوع والأوبة وليعلم أن الله غفور رحيم , وعليه أن يداوم على الطاعات بقدر ما تستجيب له نفسه ويتنقل بين الطاعات المحببة لنفسه يراوح بينها حتى يلقى الله وهو راض عنه , أسأل الله أن يوفقنا لما يحبه الله ويرضاه من الأعمال الصالحة وأن يجعلنا من المتقين ... والحمد لله رب العالمين .
« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
12-06-2017
