إن الأغلب في حياة الإنسان هي حياة التدافع والاختلاف وليست حياة التوافق والإتلاف وهذا بسبب ما هو موجود في ذوات الناس من اختلافات كثيرة , فلا تجد مشاعر التوافق تسيطر حتى في جو الأسرة الصغيرة بل الخلاف متواجد وحاضر في كثير من الأشياء , قال تعالى (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) هود , وأوضح الاختلاف المشاهد يبرز في صورة كل إنسان فترى تفاصيل خلقته تختلف عن الآخرين في أكثر الملامح , وكذلك في هوى النفس والاختيارات الخاصة به , والاختلاف طبيعة غالبة للنفس البشرية والاجتماع والتوافق قليل يشذ عن الغالب , ومع وجود الاختلاف إلا أن الإنسان يستطيع السيطرة على تلك النزعة وبإمكانه ضبط الكثير منها وترك الاختلاف ولذلك أمر
الله تعالى بترك التفرق , قال تعالى (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) ال عمران(103) , فهذه الآية تبين قدر الخلاف والتفرق الذي كان عليه الناس قبل الإسلام حتى وصل إلى درجة العداوة والاقتتال , فكان العداء مستشر بكثرة بين القبائل العربية ويقودهم إلى الحروب والثأر والانتقام .
إن
الله قد جمع شتات الناس على دين واحد وسماه
الله في كتابه الإسلام , وهو كذلك على اختلاف تعاقب الأمم والأنبياء و اختلاف الكتب المنزلة و تبدل الأزمنة فلم يتغير مسماه , فجعل
الله الدين واحدا لا يختلف كثيرا في تشريعاته العامة ولم تتغير أركان الإسلام من صلاة وصيام وزكاة وحج فقد أوجبها
الله على كل أمة سبقت ومنها أمة محمد صلى
الله عليه وسلم , قال تعالى (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) ال عمران (19) , وكانت وصية إبراهيم عليه السلام هو التمسك بالإسلام , قال تعالى (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاًّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (132) البقرة , فكان لا بد للمؤمنين في كل امة أن يجتمعوا تحت دين واحد وراية واحدة فلا يحيدون عنها وهي راية الإسلام , وقد تكرر حمل راية الإسلام من كل نبي ورسول فكلهم يحملون نفس الرسالة ولهم نفس الغاية ويسيرون إلى نفس الهدف , وهو تعريف الناس بربهم وخالقهم وتعبيدهم له بإتباع أوامره وإنقاذهم من سخط
الله وشديد عقابه , قال تعالى (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) النحل (36) .
إن الالتفاف حول منهج النبوة والتمسك به هو حبل
الله المتين وهو الصراط المستقيم وهو النجاة من عذاب
الله , ومن زلت به الأقدام فتنكب طريق المؤمنين وأتبع خلف كل داعية يدعوا إلى غير هدى من
الله فقد ضل الطريق , قال تعالى (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا ) النساء (115) , وقد يلتبس على الناس كثرة الدعاة المدلسين الذين يبيتون للناس غير الذي يظهرون وقد تكون أحيانا في دعوتهم شيء من الحق لكي يتلبس على الناس ما يدعون إليه ولكن العارف بمكرهم يتبين له ما يخالطها من شر واضح يحرفها عن المسار الصحيح إلى أن ينتهي بها المطاف إلى طريق بعيد عن الصراط المستقيم , قال تعالى (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ) النساء(108) فيجب الحذر منهم لسوء طويتهم وخبث ودهاء مكرهم .
إن ما كان أصله باطلا خارج عن الإسلام فهو باطل لا يؤخذ به ولو أريد به الكثير من الخير , كمن يجيز الربا من أجل دفع رواتب الموظفين أو يريد تمويل المشاريع التجارية أو الحكومية أو يزعم أنه يريد الإنفاق على تسليح الجيش بمعدات حديثة بأخذ قروض ربوية من البنوك الدولية , أو يريد دعم ميزانية الدولة بتلك القروض لبناء الجسور والطرق السريعة وتأسيس البنية التحتية للبلد وغير ذلك من مزاعم يقترضون من أجلها , فنقول هذه أعمال خير ولكنها أعتمدت على أصل باطل ومحرم ولا يقبل
الله التعامل بالربا ولو كانت لمصالح حسنة تنفع الناس في دنياهم فلا يحل لمؤمن أن يرضي الناس بسخط
الله فالله أحق أن يرضوه وأحق أن يتبع , قال تعالى (قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) يونس(35) , وفي صورة أخرى تختلف قليلا تجد من أهل العلم من ينحاز إلى إمام بلد ظالم يجيز للناس الربا والخمور ونشر الفساد في المجتمع ويرون من المصلحة في موالاته والوقوف معه وإن كان فاسقا ظالما لما في ذلك من استقرار للبلد ونمو وحفظ للتجارة وغيرها من مصالح تنفع الناس , ونسوا أن
الله لا يقبل مخالفة أمره قال تعالى (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) النور(63) , ونسوا أن تبديل أوامر
الله يستوجب العذاب , قال تعالى (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ ) الأعراف (162), فليس على المؤمن أن يوالي من شذ عن شرع
الله وبدل أحكام
الله حتى لو كان ذلك الداعية لوحده في ذلك المجتمع فعليه أن يلزم حدود
الله وأن يستقيم عليها حتى لو لم تقبل له دعوه , فأن يعتزل كل الدعاوي الباطلة خير له من أن يميل إليهم ولو في شيء قليل , قال تعالى (وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا ) النساء (27).
إن موالاة الإسلام والمسلمين واجب شرعي لا ينفك عن رقبة كل مؤمن يدين بهذا الدين , فلا يغرك كثرة المهرولين الذين تفرقت بهم الأهواء في كل طريق وهم يزعمون أنهم على المنهج الصحيح وأنهم على خطى سلف هذه الأمة , فأتباع الأنبياء المتمسكين بنهج الإسلام الصحيح ليسوا الأكثر عددا في الأمة بل لا يزالون قلة قليلة في كل زمان وفي كل مكان , والباقين من الأمة لهم ما لهم وعليهم ما عليهم وقد يموج بعضهم موج البحر حتى يصبح زبدا طافيا على سطحه لا خير فيه , فقد ذكر الألباني في صحيح الجامع بسند صحيح , عن أنس بن مالك قال , قال : رسول
الله صلى
الله عليه وسلم " يأتي على الناسِ زمانٌ ، الصابرُ فيهِم على دينِه ، كالقابضِ على الجَمْرِ " . أي المتمسك على الدين الصحيح كمثل من يقبض بيده على جمرة من نار لكثرة المخالفين له من أهل الملة فيتهمونه بالغلو والتشدد وأحيانا بالانحراف عن الدين , فترى الكثرة الغاوية تجتهد لتطويع القلة المتمسكة بالدليل لترك تمسكها وفهمها الصحيح لتنحرف معهم وتسير في ركابهم , كمثل ما يريده المنافقون من المؤمنين بأن يكفروا مثلهم , قال تعالى (وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا ) النساء(89) , أي يريد المنافقون أن يكون المؤمنين منافقين مثلهم فيقابلون أهل الخير بوجه وأهل الباطل بوجه أخر.
ولكن تجد المؤمنين الصادقين لا يوالون إلا من والى
الله في كل شيء ويعادون من تخلى عن دين
الله في أي شيء , وهم صابرون محتسبون لا يتغيرون وإن تغير الناس حولهم وإن قل الأنصار لدعوتهم , بل هم باقون على تلك الحال حتى يلقوا
الله وهم على المنهج الصحيح , فعن معاوية بن أبي سفيان رضي
الله عنه , قال , قال رسول
الله صلى
الله عليه وسلم " لا تزال طائفةٌ من أمتي قائمةً بأمرِ اللهِ ، لا يضرُّهم من خذلهم أو خالفهم ، حتى يأتي أمرُ اللهِ وهم ظاهرون على الناسِ " . رواه مسلم , وكل زمن يأتي والذي بعده أشر منه حتى يكثر النفاق و يصدق فيه الكاذب ويخون فيه الصادق , فقد ذكر الألباني في صحيح الجامع بسند صحيح , عن أنس بن مالك وأبو هريرة قالا , قال رسول
الله صلى
الله عليه وسلم " سيأتِي على الناسِ سنواتٌ خدّاعاتٌ ، يُصدَّقُ فيها الكاذِبُ ، ويُكذَّبُ فيها الصادِقُ ، ويُؤتَمَنُ فيها الخائِنُ ، ويخونُ الأمينُ ، وينطِقُ فيها الرُّويْبِضَةُ . قِيلَ : وما الرُّويْبِضةُ ؟ قال : الرجُلُ التّافِهُ يتَكلَّمُ في أمرِ العامةِ " , فكم نسمع ممن يدعي أنه على المنهج والدين الصحيح ثم إذا هو من هؤلاء الرويبضة فتراه يوالي الرافضة ويصحح منهجهم ويدعوا للتعاون مع العلمانيين , وكم نسمع الأشقياء منهم وهم يشاركون الروافض في الطعن على أصحاب رسول
الله صلى
الله عليه وسلم , والأمثلة كثيرة في المجتمع الإسلامي والله سبحانه وتعالى يكتب ما يقولون , قال تعالى (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً (81) النساء , فهم يزعمون أنهم يطيعون
الله ورسوله وفي الخفاء يبيتون خلاف ذلك ويكيدون لهذه الأمة ورموزها , فكل من ترك طاعة
الله ورسوله فهو منحرف عن دين
الله قد سلك غير طريق المؤمنين , قال تعالى (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا ) النساء(115) , وسبيل المؤمنين الترضي على أصحاب رسول
الله صلى
الله عليه وسلم , وقال تعالى (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ) التغابن(12) , وطاعة
الله ورسوله يبرز لديك بقدر ولائك للإسلام وأهله ومخالفتك تبرز بقدر توليك وإدبارك عن شرع
الله ويزيدك ذلك عن
الله بعدا , وفي الحديث الذي رواه أبوهريرة قال , قال رسول
الله صلى
الله عليه وسلم " ألا ليذادنَّ رجالٌ عنْ حوضِي كما يذادُ البعيرُ الضالُّ . أُناديهم : ألا هلُمُّ ! فيقال : إنهمْ قد بدَّلوا بعدَكَ . فأقولُ : سُحقًا سُحقًا ". رواه مسلم .
إن
الله سيحاسب كل مؤمن على أعماله وأقواله التي يجاهر بها ويناضل من أجلها ولن تنفعه الحجج الملتوية في ترك موالاة هذا الدين موالاة كاملة ظاهرا وباطنا , فعليك أخي المسلم أن تكون صادقا مع
الله في حمل هذا الدين ولا تكونن متذبذبا مرة مع أهل الخير ومرة مع أهل الشر لترضي الجميع , فإن كنت ضعيفا لا تستطيع الصدع بالحق فأعتزل أهل الباطل وشؤونهم اعتزالا كاملا ولن يحملك
الله مالا تستطيع وسيعفو عنك كما قال
الله تعالى في حال المستضعفين (إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) النساء , أما الذي يخالط الكفار والمجرمين والظلمة ويداهنهم على حساب دينه فلا شك أنه على خطر عظيم يتلف أخرته بدنياه , أسأل
الله أن يحفظ لنا إيماننا وأن يبصرنا بعيوبنا وأن يرشدنا إلى الصواب والهدى ... والحمد لله رب العالمين