نوح عليه السلام إنما بعثه الله تعالى لما عبدت الأصنام والطواغيت ، وشرع الناس في الضلالة ، والكفر فبعثه الله رحمة للعباد فكان أول رسول بعث إلى أهل الأرض ، كما يقول له أهل الموقف يوم القيامة ، وكان قومه يقال لهم بنو راسب فيما ذكره ابن جرير وغيره .
واختلفوا في مقدار سنه يوم بعث . فقيل : كان ابن خمسين سنة وقيل : ابن ثلاثمائة وخمسين سنة . وقيل : ابن أربعمائة وثمانين سنة حكاها ابن جرير ، وعزا الثالث منها إلى ابن عباس .
وقد ذكر الله قصته وما كان من قومه ، وما أنزل بمن كفر به من العذاب بالطوفان ، وكيف أنجاه وأصحاب السفينة في غير ما موضع من كتابه العزيز ; ففي الأعراف ، ويونس ، وهود ، والأنبياء ، والمؤمنون ، والشعراء ، والعنكبوت ، والصافات ، واقتربت . وأنزل فيه سورة كاملة
كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام . وذكرنا أن المراد بالقرن الجيل أو المدة على ما سلف ، ثم بعد تلك القرون الصالحة حدثت أمور اقتضت عن ابن عباس عند تفسير قوله تعالى :وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا [ نوح : 23 ] . قال : هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ، ففعلوا ، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت . قال ابن عباس : وصارت هذه الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد .
وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما ذكرت عنده أم سلمة وأم حبيبة تلك الكنيسة التي رأينها بأرض الحبشة يقال لها مارية . فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها قال : أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ، ثم صوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله عز وجل .
والمقصود أن الفساد لما انتشر في الأرض ، وعم البلاء بعباد الأصنام فيها بعث الله عبده ورسوله نوحا عليه السلام يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وينهى عن عبادة ما سواه ، فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض ، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة قال : فيأتون آدم فيقولون : يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأمر الملائكة فسجدوا لك ، وأسكنك الجنة ، ألا تشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا ، فيقول : ربي قد غضب غضبا شديدا لم يغضب قبله مثله ، ولا يغضب بعده مثله ، ونهاني عن الشجرة فعصيت ، نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح . فيأتون نوحا فيقولون : يا نوح ، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض ، وسماك الله عبدا شكورا ، ألا ترى إلى ما نحن فيه ، ألا ترى إلى ما بلغنا ، ألا تشفع لنا إلى ربك عز وجل فيقول : ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولا يغضب بعده مثله . نفسي نفسي . وذكر تمام الحديث بطوله ،
. فلما بعث الله نوحا عليه السلام دعاهم إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له ، وأن لا يعبدوا معه صنما ، ولا تمثالا ، ولا طاغوتا ، وأن يعترفوا بوحدانيته ، وأنه لا إله غيره ، ولا رب سواه ، كما أمر الله تعالى من بعده من الرسل الذين هم كلهم من ذريته [ نوح : 2 – 14)
فذكر أنه دعاهم إلى الله بأنواع الدعوة في الليل والنهار ، والسر والإجهار ، بالترغيب تارة والترهيب أخرى ، وكل هذا فلم ينجح فيهم ، بل استمر أكثرهم على الضلالة والطغيان ، وعبادة الأصنام والأوثان ، ونصبوا له العداوة في كل وقت وأوان ، وتنقصوه وتنقصوا من آمن به . وتوعدوهم بالرجم والإخراج ، ونالوا منهم ، وبالغوا في أمرهم قال الملأ من قومه . أي : السادة الكبراء منهم : إنا لنراك في ضلال مبين قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين [ الأعراف : 60 ] . أي : لست كما تزعمون من أني ضال بل على الهدى المستقيم ،
رسول من رب العالمين ، أي : الذي يقول للشيء كن فيكون أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون [ الأعراف : 62 ] . وهذا شأن الرسول أن يكون بليغا ، أي : فصيحا ناصحا أعلم الناس بالله عز وجل .
وقالوا له فيما قالوا : ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين [ هود : 27 ] . تعجبوا أن يكون بشرا رسولا ، وتنقصوا بمن اتبعه ، ورأوهم أراذلهم
وقد تطاول الزمان ، والمجادلة بينه وبينهم ، كما قال تعالى : فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون [العنكبوت : 14 ] . أي : ومع هذه المدة الطويلة فما آمن به إلا القليل منهم ، وكان كلما انقرض جيل وصوا من بعدهم بعدم الإيمان به . ومحاربته ، ومخالفته ، وكان الوالد إذا بلغ ولده وعقل عنه كلامه وصاه فيما بينه وبينه أن لا يؤمن بنوح أبدا ما عاش ودائما ما بقي ، وكانت سجاياهم تأبى الإيمان واتباع الحق ،
ولهذا قال : ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا [ نوح : 27 ] . ولهذا قالوا : يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين [ هود : 32 - 33 ] . أي : إنما يقدر على ذلك الله عز وجل فإنه الذي لا يعجزه شيء ، ولا يكترثه أمر بل هو الذي يقول للشيء : كن فيكون ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون [ هود : 34 ] . أي : من يرد الله فتنته فلن يملك أحد هدايته هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، وهو الفعال لما يريد ، وهو العزيز الحكيم العليم بمن يستحق الهداية ومن يستحق الغواية ، وله الحكمة البالغة ، والحجة الدامغة
وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون [ هود : 36 ] . وهذه تعزية لنوح عليه السلام في قومه أنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن ، وتسلية له عما كان منهم إليه فلا تبتئس بما كانوا يفعلون . أي : لا يسوأنك ما جرى فإن النصر قريب ، والنبأ عجيب
] واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون .
] وذلك أن نوحا عليه السلام لما يئس من صلاحهم ، وفلاحهم ، ورأى أنهم لا خير فيهم ، وتوصلوا إلى أذيته ، ومخالفته ، وتكذيبه بكل طريق من فعال ، ومقال دعا عليهم دعوة غضب لله فلبى الله دعوته وأجاب طلبته ، قال الله تعالى : ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ونجيناه وأهله من الكرب العظيم [ الصافات : 75 - 76 ] . وقال تعالى : ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم [ الأنبياء : 76 ] . وقال تعالى : قال رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين [ الشعراء : 117 - 118 ] . وقال تعالى : فدعا ربه أني مغلوب فانتصر [ القمر : 10 ] . وقال تعالى : قال رب انصرني بما كذبون [ المؤمنون : 26 ] . وقال تعالى : مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا [ نوح : 25 - 27 ] . فاجتمع عليهم خطاياهم من كفرهم وفجورهم ، ودعوة نبيهم عليهم ، فعند ذلك أمره الله تعالى أن يصنع الفلك ، وهي السفينة العظيمة التي لم يكن لها نظير قبلها ، ولا يكون بعدها مثلها ، وتقدم الله تعالى إليه أنه إذا جاء أمره ، وحل بهم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين أنه لا يعاوده فيهم ولا يراجعه ، فإنه لعله قد تدركه رقة على قومه عند معاينة العذاب النازل بهم ، فإنه ليس الخبر كالمعاينة ،
ولهذا قال : ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه . [
] أي يستهزئئون به استبعادا لوقوع ما توعدهم به قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون . أي : نحن الذين نسخر منكم ، ونتعجب منكم في استمراركم على كفركم ، وعنادكم الذي يقتضي وقوع العذاب بكم وحلوله عليكم
فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم . وقد كانت سجاياهم الكفر الغليظ ، والعناد البالغ في الدنيا . وهكذا في الآخرة فإنهم يجحدون أيضا أن يكون جاءهم من الله رسول ، كما قال البخاري : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يجيء نوح عليه السلام ، وأمته فيقول الله عز وجل : هل بلغت . فيقول : نعم . أي رب . فيقول لأمته : هل بلغكم . فيقولون : لا ما جاءنا من نبي . فيقول لنوح : من يشهد لك . فيقول : محمد وأمته . فتشهد أنه قد بلغ . وهو قوله : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [ البقرة : 143.
قال الله تعالى : قال رب انصرني بما كذبون فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا [ المؤمنون : 26 ] . أي ; بأمرنا لك ، وبمرأى منا لصنعتك لها ، ومشاهدتنا لذلك لنرشدك إلى الصواب في صنعتها فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون [ المؤمنون : 27 ] . فتقدم إليه بأمره العظيم العالي أنه إذا جاء أمره ، وحل بأسه أن يحمل في هذه السفينة من كل زوجين اثنين من الحيوانات وسائر ما فيه روح من المأكولات ، وغيرها لبقاء نسلها ، وأن يحمل معه أهله أي : أهل بيته إلا من سبق عليه القول منهم ;
وقد اختلف في عدة من كان معه في السفينة ; فعن ابن عباس كانوا ثمانين نفسا معهم نساؤهم : ونجني ومن معي من المؤمنين . وقيل : كانوا سبعة . وأما امرأة نوح ، وهي أم أولاده كلهم ; وهم حام ، وسام ، ويافث ، ويام ، وتسميه أهل الكتاب كنعان ، وهو الذي قد غرق ، وعابر . وقد مات قبل الطوفان . قيل : إنها غرقت مع من غرق ، وكانت ممن سبق عليه القول لكفرها . وعند أهل الكتاب أنها كانت في السفينة ، فيحتمل أنها كفرت بعد ذلك أو أنها أنظرت ليوم القيامة ،
والظاهر الأول لقوله : لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا [ نوح : 26 ] . قال الله تعالى : فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين [المؤمنون : 28 - 29 ] . أمره أن يحمد ربه على ما سخر له من هذه السفينة فنجاه بها ، وفتح بينه وبين قومه ، وأقر عينه ممن خالفه وكذبه
، كما قال تعالى : الذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون [ الزخرف : 12 –
وقد امتثل نوح عليه السلام هذه الوصية وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم . أي على اسم الله ابتداء سيرها وانتهاؤه إن ربي لغفور رحيم . أي وذو عقاب أليم مع كونه غفورا رحيما لا يرد بأسه عن القوم المجرمين ، كما أحل بأهل الأرض الذين كفروا به . وعبدوا غيره قال الله تعالى : وهي تجري بهم في موج كالجبال . وذلك أن الله تعالى أرسل من السماء مطرا لم تعهده الأرض قبله ، ولا تمطره بعده كان كأفواه القرب ، وأمر الأرض فنبعت من جميع فجاجها وسائر أرجائها ، كما قال تعالى : فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر [ القمر : 10 - 13 ] . والدسر : المسامير تجري بأعيننا أي بحفظنا وكلاءتنا وحراستنا ومشاهدتنا لها جزاء لمن كان كفر .
قال جماعة من المفسرين : ارتفع الماء على أعلى جبل بالأرض خمسة عشر ذراعا . وهو الذي عند أهل الكتاب . وقيل : ثمانين ذراعا . وعم جميع الأرض ; طولها والعرض ، سهلها وحزنها ، وجبالها ، وقفارها ورمالها ، ولم يبق على وجه الأرض ممن كان بها من الأحياء عين تطرف ، ولا صغير ولا كبير
(. ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين [ هود : 42 - 43 ] . وهذا الابن هو يام أخو سام وحام ويافث . وقيل : اسمه كنعان . وكان كافرا عاملا غير صالح ، مخالفا أباه في دينه ومذهبه ، فهلك مع من هلك . هذا وقد نجا مع أبيه الأجانب في النسب لما كانوا موافقين في الدين والمذهب
وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين . أي ; لما فرغ من أهل الأرض ، ولم يبق منها أحد ممن عبد غير الله عز وجل ، أمر الله الأرض أن تبلع ماءها ، وأمر السماء أن تقلع . أي تمسك عن المطر وغيض الماء . أي نقص عما كان وقضي الأمر ، أي وقع بهم الذي كان قد سبق في علمه وقدره ، من إحلاله بهم ما حل بهم
وقيل بعدا للقوم الظالمين . أي ; نودي عليهم بلسان القدرة بعدا لهم من الرحمة والمغفرة ، كما قال تعالى : فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين [ الأعراف : 64 ]
وقد استجاب الله تعالى وله الحمد والمنة دعوته فلم يبق منهم عين تطرف .
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك