هي أمّ عمرو تماضر بنت عمرو بن الحرث بن الشريد بن رياح ... ابن خُفاف بن امرئ القيس ... ابن سُليم ... ابن قيس بن عيلان بن مُضَر ولُقِبت بـ ( الخنساء ) لقصر أنفها وارتفاع أرنبتيه ، وهي صفة مُستَحبّة ، أكثر ما تكون في الظّباء وفي البقر الوحشي . وكان يُقال لها أيضاً ( خُنَاس ) . ومعنى تماضر : البيضاء أو البياض .
وُلِدَت الخنساء المُضَريّة النَسَبْْ سنة 575 م ، الأصغر من أخويها ، وكان أبوها ذا نفوذ واسع وثروة طائلة ، وكان يمسك بيد ابنيه صخر( تولّد 565 ) ومعاوية ( تولّد 570 ) ويقول " أنا أبو خَيرَي مُضَر " فلا ينكر عليه ذلك أحد ، كان للخنساء من حريّة الاختيار مع وجود أبيها وأخويها بالرغم من صغر سنّها التي لم تتجاوز العشرين ، حيث عاشت معهما في بيت عزّ وجاه ، وحدث أن جاء إلى أبيها دريد بن الصمة ـ وهو من شيوخ العرب ـ طالباّ يدها ، فاستشارها والدها بذلك فرفضت وقالت لأبيها : " يا أبتِ ، أتراني تاركة بني عمّي مثل عوالي الرّماح ، وناكحة شيخ بني جُثم ، هامة اليوم أو غدٍ . "
ذَكَرَ أحد شُرَّاح ديوانها إنها تزوّجت أربع مرّات ، إلاّ أن الثابت والمعروف أنها ، بعد أن ردَّت دريد بن الصمة ، خطبها ابن عمّها رواحة بن عبد العزيز السُّلمي ، ثم مات . فتزوّجها عبد العُزَّى أو عبد الله بن العُزَّى ، من بني خُفاف . فولدت له عمراً ، والبعض يدعونه عبد الله ، وهو المعروف بأبي شجرة . وكان ذلك نحو 593 م ، ثم تزوّجها مرداس بن أبي عامر السلمي فولدت له يزيد ومعاوية وعمرو وسراقة وعَمْرَة . وقد اشتهر أبناء الخنساء جميعهم بالفروسية وقول الشعر . عُمِّرت الخنساء طويلاً حتى بلغت الإسلام فاعتنقته مع بنيها والمعروف أن أربعة من أولادها حاربوا في وقعة القادسية ســنة 635 م وأوصت أولادها أن يُجاهدوا فيها حتى الموت فحفظوا وصيّتها حتى قُتِلوا جميعهم ، فلما بلغها خبر مقتلهم هتفت : ( الحمد لله الذي شرّفني بقتلهم ، وأرجو من ربّي أن يجمعني بهم في مستقرّ الرحمة ) . ولم يُذْكَرْ بعد ذلك شيئاً عن حياتها إلاّ ما رواه علقمة بن جرير لمعاوية من إنه شاهدها في البادية في عرس ابنتها عَمْرَة ، وهي ملتفّة بكساء أحمر ، وقد هَرِمَت وقد توفّيَت سنة 664 م
مقتل أخويها :
لما كان مقتل أخوي الخنساء من الحوادث الجليلة ، التي أثّرت في حياتها فحوّرت مجرى شعورها وأفاضت شاعريّتها الحسّاسة . فقد اختلف معاوية أخو الخنساء ، وهاشم بن حرملة ، في سوق عكاظ فتشاتما وتواعدا . فتقابلا في مكان يُدعى : الحوزة ( وادٍ بالحجاز ) ، فانفرد هاشم ودريد ابنا حرملة بمعاوية وقتلاه ، وكان ذلك نحو 612 م . وأخذ صخر بثأر معاوية في الحوذة فقتل دريداً . وأما هاشم فقد لقيه عمرو بن قيس الجشمي وتبعه وقتله فمدحته الخنساء . وكان ذلك نحو 613 م . وكان صخر سيّد بني خُفاف ، فسار بهم غازياً بني أسد ( في يوم كُلاب أو يوم ذات الأثل نحو 615 م ) فاكتسحوا أموالهم وسبوا نساءهم ، وكان بين الأسديين فارس اسمه ربيعة بن ثور الأسدي فطعن صخراً في جنبه فجرحه استمرّ إثرها حولاً كاملاً ثم توفّي فبكته الخنساء . الخنساء امرأة أُصيبت في صميم قلبها ، وكان الخطب الذي ألمَّ بها عظيماً فموي أخويها ولا سيّما صخر فجَّرَ من عينيها ينبوعي دموع ، ومن قلبها شِعْراً هو شعر العاطفة المُحِبّة والمتألمة في محبّتها .
العاطفة كانت قوام شعرها وهي مصدره ، وهو التعبير عنها في معانيه وأخيلته وألفاظه فكانت لا تعرف للبكاء حدّاً ، والذكريات تملأ عالمها ، فكل شيء كان يُذكِّرها بأخيها صخر فالشمس إذا طلعت تُذَكِّرها بغارات صخر ، والشمس إذا غربت تُذَكِّرها ضيافة صخر :
يُذكِّرُني طُلوعُ الشمسِِ صَخراً وأذكُرُهُ لِكُلِّ غُروبِ شمسِ
فكانت العاطفة صورة لأحوال نفسها المتألّمة ، وتنفُّساً لقلبها المنقلب بين الأسى والثورة والإعجاب بصفات صخر الفريدة وبالأسف على تلك الصفات . فكان اسلوبها عاطفياً وسهلاً .
ولكن مما لا شكّ فيه هو أن مَن تبعها من شعراء الرّثاء وشواعره اغترفوا جميعهم من بحرها الفيّاض بفيض العاطفة البشرية . فحقاً هي شاعرة الرّثاء . وقال عنها :
ـ الرسول (ص) : أتى إليه رجل وقال : أشعر الناس فينا امرؤ القيس وأسخى الناس حاتـم
الطائي وأفرس الناس عمرو بن معد . فقال (ص) : بل قُل أشـعر الناس الخنساء
ـ بشاربن برد : لم تكن امرأة تقول الشعْر إلاّ ويظهر فيه ضعف ، إلاّ الخنساء فتلك غلبـت
الرجال .
ـ النابغة الذبياني : الخنساء أشعر الجن والأنس .
ـ جرير : سئلَ عن أشعر الناس فقال : أنا ، لولا الخنساء .
أعمــالها الشِعْريّة :
حفظ السُلميون أقوال الخنساء في حياتها وتناقلوه أجيالهم حتى أتاهم جامعو الشعر القديم في القرن الثامن ، فأخذوه عنهم لا سيّما عن أشجع السّلمي ، ابن أخت الخنساء . فألّفوا ( ديوان الخنساء ) الذي شرحه عدد من العلماء أشهرهم ابن السكّيت ، وابن الأعرابي ، والثعالبي . وقد حفظت شروحهم في نسختين للديوان كتبهما العاصمي والكرماني سنة 839 م ، ووقف عليهما أحد الأدباء سنة ( 1223 ـ 1224 ) م فجمعهما في نسخة واحدة ووفق عليها الأب لويس شيخو فطبعها سنة 1888 م ثم أصدرها بطبعة مدرسية مختصرة بعنوان : ( أنيس الجلساء في ديوان الخنساء ) سنة 1896 م . كما قام الأب ( دي كوبييه De Coppier ) بترجمته كاملاً إلى اللغة الفرنسية وطبعه في بيروت سنة 1889 .
مقتطفـــات من أعمــالها :
1 ـ مقتطفات من أشهر قصيدة برثاء معاوية ، فقد وردَ في ( الأغاني ) عن أبي عبيدة :
أن هذه القصيدة في رثاء صخر ، إلاً أن السُلمي أنكر هذا القول :
ألا مـا لعينـي ! ألا ما لها ! وقد اخضل الدّمع سربالها
أبعد ابم عمروٍ من آل الشريـ د حلّت به الأرض أثقالها
يدَ الدهر ، آسى على هالـكٍ واسـألُ نائحـةً ما لهـا
لتجرِ المنيّـةُ ، بعـد الفتـى المُغـادر بالمحوِ ، أذلالها
هممت بنفسي كل الهمـوم ، فأولى لنفسي ، أولى لها !
سأحمل نفســي على آلـةٍ فإمّـا علـيها وإمّـا لها ؛
فخرَّ الشــوامخ من قتله ، وزلزلت الأرض زلزالها.
وزال الكواكب مـن فقـده ، وجُلّلت الشمس أجـلالها .
2 ـ وهذه مقتطفات من قصيدة أخرى في رثاء معاوية :
ألا لا أرى في الناس مثل معاوية إذا طرقت إحدى الليالي بداهيـه ،
بداهيـة ٍيُضغي الكلابَ حسيسها وتخرج من سرِّ النّجِيِّ عـلانيه .
ألا لا أرى كالفارس الورْد فارساً إذا ما علته جُرأة وغلانـــيه ،
وكان لِزاز الحرب ، عند شبوبها إذا شمَّرَت عن ساقها وهي ذاكية ؛
وقُوَّادَ خيلٍ نحو أخرى ، كأنـها سَـعالٍ وعقبـانٌ عليها زبانيـه .
بلينا ، وما تُبلى تِعارٌ ، ومـا تُرى على حـدث الأيام ، إلا كما هيه .
فأقسمت : لا ينفكَّ دمعي ، وعولتي عليك بحـزنٍ ما دعا اللهَ . داعيه .
3 ـ ونقرأ رِقّة شِعْرها في رِثاء صخر :
قذىً بعينـك ، أم بالعيــنِ عُوَّارُ ، أم ذرفت ، إذ خلت من أهلها الدّارُ ؟
كأن دمعي لذكراه، إذا خطــرت ، فيضٌ يسيل على الخدّينِ ، مِدرارُ !
تبكي خُناسٌ ، فما تنفكّ ما عَمَرت ، لها عليه رنيـنٌ ، وهي مِفتــارُ !
تبكي خُناسٌ على صخرٍ وحقَّ لها ، إذ رابها الدّهرُ ؛ إن الدهرَ ضرَّارُ !
مثل الردينيّ لم تنفــذْ شــبيبته ، كأنه ، تحت طيّ البُـردِ ، أُسوارُ !
في جوف لحدٍ مقيمٌ ، قد تضمّنــه في رمسه مُقمطرّاتُ وأحجــارُ ؛
لا يمنع القوم ، إن سألوه خُلعتـه ، ولا يُجــاوزه بالليـل مُــرَّارُ .
4 ـ وقالت أيضاً في رِثاء صخر :
يا عينِ ، ما لكِ لا تبكين تسـكابا ! إذا راب دهرٌ ، وكان الدّهر ريّابا !
فابكي أخــاكِ لأيتــامٍ وأرملةٍ ! وابكي أخاكِ ، إذا جاورت أجنابا !
هو الفتى الكامل ، الحامي حقيقتَه ، مأوى الضريك ، إذا ما جاء مئتابا ؛
سـمُّ العُداة ، وفكّــاك العُناة ، إذا لاقى الوغى ، لم يكن للموت هيَّابا .
5 ـ وقالت في رِثاءِ صخر :
أعينَيَّ ، جودا ولا تجمُـدا ! ألا تبكيان ِ لصخــرِ الندى ؟
ألا تبكيان الجريء الجميلَ ؟ ألا تبكيــان الفتى السيّــدا؟
طويلَ النجاد ، رفيع العمـا د ، ســاد عشــيرته أمردا
إذا القوم مــدّوا بأيديهـم إلى المجد ، مــدَّ إليه يـدا ؛
فنال الذي فــوق أيديهـم من المجد ثم مضى مصعـدا .
ترى المجد يهوي إلى بيته ، يرى أفضل الكسب أن يُحمدا ؛
وإن ذُكِرَ المجـد ، ألفيتـه تأزَّر بالمجـــد ثم ارتدى !
غياث العشيرة ، أن امحلوا ، يُهينُ التلاد ، ويُحيي الجـدا !
6 ـ توفّي زوجها مرداس بعد أن أصابته حمَّى شديدة بالقرب من أرض شَوَان وكان قــد
أراد تجفيف مُستنقعاتها فألّف العرب من ذلك رواية غريبة جعلوا فيها الأرض مسكونة
، والجنّ ثائرة من مرداس لأنه حرق غيضها ، وأراد تحويل مجرى مياهها ، فقالـت الخنساء ترثيه :
ولمّا رأيت البـــدر أظلم كاسفاً ، أرنَّ شــوانٌ : بُرْقُهُ ، فمسايلُه،
رنيناً ؛ وما يُغني الرّنين ، وقد أتى بنعشك من فوق القُرَيّة حاملُـه ؟
لقد خار مرداساً على الناس قاتلُه ، ولو عـاده كنّـاتُه وحلائلــُه ،
وقلنَ : " ألا هل من شفاء يناله ؟ " وقد منع الشفـاءَ من هو قاتلُـه !
وفضّل مرداساً على الناس حلمُهُ ، وأنَّ كلّ هَمٍّ همَّــه فهو فاعلُـه ،
وأن كل وادٍ يكره القومُ هبطَــه هبطتَ ، وماء منهـلٍ أنتَ ناهلُه ،
تركتَ به ليــلاً طويلاً ، ومنزلاً تعادى على جنب الطريق عواسلُه .
وسبيٍ كآرام الصـريم حويتَـه ، خِلال رجالٍ ، مستكينٍ عواطـلُه ؛
فعدت عليه بعد بؤسى ، بأنعُــمٍ وكلهــمُ تُعنى بـه وتواصــلُه.
متى ما توازن ماجداً تعتدلْ بـه ، كما عـدل الميـزان بالكفِّ ثاقلُه !
7 ـ وقيل أن قصيدة ( يذكّرني طلوع الشمس ) هي آخر قصيدة قالتها :
يُذكّرني طلوعُ الشمس صخراً ، وأذكــره لكلّ غروب شـمسِ ،
ولولا كثـــرة الباكين حولي على اخوانهــم ، لقتلت نفسـي !
فيا لهفي عليه ، ولهـفَ أُمّي ! أيُصبح في الضريح ، وفيه يُمْسي !
8 ـ ذكرنا أنه عندما سُئِل جرير عن أشعر الناس قال : أنا ، لولا الخنساء ، فقيل له بِــمَ
فضّلتها ؟ قال بقولهــا :
إن الزمان ، وما يفنى له عجبٌ ، أبقى لنا ذنباً ، واستؤصل الراسُ ؛
أبقى لنا كلّ مجهــولٍ ، وفجّعنا بالحالمين ، فهم هامٌ وأرمــاسُ .
إن الجديدين ، في طول اختلافهما ، لا يفسُدان ؛ ولكن يفسـد الناسُ
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك