الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم في سورة الأعراف
﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ ﴾
موضع واحد وهو قوله تعالى: ﴿
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 184، 185].
أولًا: سبب نزولها: ذكر أهل التفسير ما رواه ابن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو حاتم وأبو الشيخ رحمهم الله تعالى عن قتادة، قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قام على الصفا، فدعا قريشًا فخذًا فخذًا: يا بني فلان، يا بني فلان، يُحذِّرهم بأسَ الله ووقائع الله إلى الصباح، حتى قال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون باتَ يصوِّت إلى الصباح - أو قال حتى أصبح - فأنزل الله: أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة.
ثانيًا: تضمَّنت الآية - بحسب ما ورد في سبب نزولها - اتهامَ المشركين النبيَّ صلى الله عليه وسلم بأنه مجنون - وحاشاه - حين دعاهم إلى الله، وحذَّرهم من بأسه وعذابه.
ثالثًا: جاء دفاع الله تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم، ضد أولئك الملأ من قريش الذين اجتمعوا على الباطل، وعلى مهاجمة مَن يدعو إلى التوحيد، وفنَّد هذه التهمة الموجهة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، واتهامه بأنه مجنون،
وذلك بما يأتي:
1- أرشدهم الله تعالى إلى أن يُعمِلوا عقولهم قبل إصدار الحكم على صاحبهم، فقال تعالى: ﴿
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ ﴾ [الأعراف: 184]، والتفكر طلب المعنى بالقلب؛ وذلك لأن فكرة القلب هو المسمى بالنظر، والتعقل في الشيء والتأمل فيه والتدبر له، وكما أن الرؤية بالبصر حالة مخصوصة من الانكشاف والجلاء، ولها مقدمة وهي تقليب الحدقة إلى جهة المرئي؛ طلبًا لتحصيل تلك الرؤية بالبصر، فكذلك الرؤية بالبصيرة، ففيها تقليب لحدقة العقل، وذلك هو المسمى بنظر العقل وفكرته، فقوله تعالى: (أولم يتفكَّروا) أمر بالفكر والتأمل والتدبر والتروي لطلب معرفة الأشياء، والتقدير: أولم يتفكروا فيعلموا ما بصاحبهم من جنة، فالاستفهام فيها للإنكار والتوبيخ.
2- كأن الله تعالى يقول لهم: كيف تتهمونه بذلك وهو ليس به صلى الله عليه وسلم نوع من أنواع الجنون، وذلك لأنه عليه السلام كان يدعوهم إلى الله، ويقيم الدلائل القاطعة والبينات الباهرة، بألفاظ فصيحة بلغت في الفصاحة إلى حيث عجَز الأولون والآخرون عن معارضتها، وكان حسن الخلق، طيب العشرة، مَرْضي الطريقة نَقِي السيرة، مواظبًا على أعمال حسنة، صار بسببها قدوة للعقلاء العالمين.
3- ومن التفكُّر الذي لفَت القرآن انتباه المشركين إليه من خلال قوله تعالى: (مَا بِصَاحِبِهِم) - أن ذكَّرهم بصحبتهم إياه، ثم اسمع ما قاله صاحب تفسير المنار:
ولو تفكَّر مشركو مكة في نشأة النبي صلى الله عليه وسلم، وأخلاقه وآدابه، وما جربوا من أمانته وصدقه مِن صبوته إلى أن اكتهَل، ثم تفكروا فيما قام يدعوهم إليه من توحيد الله بعبادته وحده، ومن كون حكمته في خلقه السماوات والأرض بالحق تقتضي تنزُّهه عن العبث، ومنه: أن يكون هذا الإنسان السميع البصير العاقل الباحث عن حقائق الأشياء من ماضٍ وحاضر وآت، وينتهي وجوده بالعدم المحض الذي هو في نفسه محال.
ثم لو تفكَّروا في سوء حالهم الدينية
(كعبادة الأصنام)، والأدبية والمدنية والاجتماعية وما دعاهم إليه من إصلاحها كلها، لعلِموا أن هذا الإصلاح الديني والأدبي والاجتماعي والسياسي، لا يثمر إلا السيادة والسعادة، وأنه لا يمكن أن يكون مصدره جنونَ من دعا إليه، بل إذا كان فيه شيء غير معقول، فهو أنه لا يمكن أن يكون هذا العلم العالي والإصلاح الكامل من رأي محمد بن عبدالله الأمي الناشئ بين الأُميين، ولا أن تكون هذه البلاغة المعجزة للبشر في أسلوب القرآن ونظْمه من كسبِ محمد الذي بلغ الأربعين، ولم ينظم قصيدة، ولا ارتجل خطبة، وأن هذه الحجج البالغة على كل ما يدعو إليه القرآن، والبراهين العقلية والعلمية الكونية، لا يتأتَّى أن تأتي فجأة من ذي عزلة، لم يناظر ولم يفاخر ولم يجادل أحدًا فيما مضى من عمره كمحمد بن عبدالله، فإذا تفكروا في هذا كله جزَموا أن هذا كله وحي من الله تعالى ألقاه في رُوعه، ونزل من لدنه على رُوحه، وعلموا أن استبعادهم لذلك جهلٌ منهم، فالله تعالى القادر على كل شيء يختص برحمته من يشاء; لهذا حثَّهم على التفكر في هذا المقام من هذه السورة وغيرها، وذكر بعدها كونه نذيرًا مبينًا، ونذيرًا بين يدي عذاب شديد.
4- بعد أن نفى عنه ما رموه به من الجنون، ذكَّرهم في ختام الآية بالمهمة التي بعث من أجلها، وهي كونه منذرًا مبلغًا عن ربه، فقال سبحانه: ﴿
إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾ [الأعراف: 184]، الإنذار تعليم وإرشاد مقترن بالتخويف من مخالفته؛ أي: ليس بمجنون، ليس إلا منذرًا ناصحًا، ومبلغًا عن الله مبينًا، ينذركم ما يحل بكم من عذاب الدنيا والآخرة إذا لم تستجيبوا له، وقد دعاكم لِما يحييكم في الدنيا بجمع كلمتكم، وإصلاح أفرادكم ومجتمعكم، والسيادة على غيركم، ويحييكم في الآخرة بلقاء ربكم.
5- ثم دعاهم القرآن في الآية التي تليها إلى النظر والاستدلال العقلي، فقال: ﴿
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ﴾، والملكوت: هو الملك العظيم زيدت فيه اللام والتاء للمبالغة كما في جبروت، والجملة الكريمة مسوقة لتوبيخهم على إخلالهم بالتأمل في الآيات التكوينية، إثر تقريعهم على عدم تفكُّرهم في أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم؛ أي: أكِذبوا ولم يتفكروا في شأن رسولهم صلى الله عليه وسلم، وما هو عليه من كمال العقل، ولم ينظروا نظر تأمُّلٍ واعتبار واستدلال في ملكوت السماوات من الشمس والقمر والنجوم وغيرها، وفي ملكوت الأرض من البحار والجبال والدواب وغيرها، ولم ينظروا كذلك فيما خلق الله مما يقع عليه اسم الشيء من أجناس لا يحصرها العددُ، ولا يحيط بها الوصف، مما يشهد بأن لهذا الكون خالقًا قادرًا هو المستحق وحده للعبادة والخضوع.
فوائد مهمة:
1- قال في تفسير المنار: أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جِنة، الجنة بالكسر النوع الخاص من الجنون، فهو اسم هيئة، واسم للجن أيضًا، ولا يصح هنا إلا بتقدير مضاف؛ أي: مِن مَسِّ جِنة، وقد حكى الله تعالى عن قوم نوح أول رسله إلى قوم مشركين أنهم اتَّهموه بالجنون، فقالوا بعد قولهم: إنه بشر مثلهم يريد أن يتفضَّل عليهم: ﴿
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ ﴾ [المؤمنون: 25]، وفي سورة القمر عنهم: ﴿
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ﴾ [القمر: 9]، وفي سورة الشعراء، حكاية عن فرعون، في موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم، قال: ﴿
إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴾ [الشعراء: 27]، وقال تعالى عنه في سورة الذاريات: ﴿
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ﴾ [الذاريات: 39]، ثم بيَّن تعالى في هذه السورة أن جميع الكفار كانوا يقولون هذا القول في رُسلهم، فقال: ﴿
كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴾ [الذاريات: 52، 53].
2- وقال أيضًا: وفي معنى آية الأعراف في خاتم النبيين والمرسلين عدة آيات (منها): قوله تعالى في كفار مكة من سورة المؤمنين: ﴿
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ * أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴾ [المؤمنون: 68 - 70]، ومثله في سورة سبأ: ﴿
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ ﴾ [سبأ: 7، 8] ثم قال فيها: ﴿
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾ [سبأ: 46]، وهذه شبيهة بآية الأعراف.
وفي أول سورة الحجر: ﴿
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [الحجر: 6، 7]، وفي سورة الصافات: ﴿
وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ﴾ [الصافات: 36]، وفي سورة الطور من الرد عليهم: ﴿
فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ ﴾ [الطور: 29]، ومثله: ﴿
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴾ [القلم: 1، 2]، وفي آخرها: ﴿
وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ﴾ [القلم: 51، 52]، وفي سورة التكوير الآية (22) بعد وصف ملك الوحي: ﴿
وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ﴾ [التكوير: 22].
3- قد علِمنا بما سبق أن جميع الكفار كانوا يرمون رسلهم بالجنون؛ لأنهم ادعوا أن الله تعالى خصَّهم برسالته ووحيه على كونهم بشرًا كغيرهم، لا يمتازون على سائر الناس بما يفوق أُفق الإنسانية، كما عُلِم من نشأتهم ومعيشتهم، ولأنهم ادَّعوا ما لا يُعهَدُ له عندهم نظيرٌ، وليس مما تصل إليه عقولهم بالتفكير، وهو أن الناس يبعثون بعد الموت والبلى خلقًا جديدًا، ولأن كلًّا منهم كان يدعي أن الناس مخطؤون وهو المصيب، وضالون وهو المهتدي، وخاسرون وهو المفلح، إلا مَن اتَّبعه منهم، ولأنهم نهوا عن عبادة الآلهة، وأنكروا أنها بالدعاء والتعظيم والنذور لها تقرِّب المتوسلين بها إلى الله زُلفى، وتشفع لهم عنده، وأثبتوا أن الشفاعة لله وحده لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، من رضي له لمن رضي عنه، فلا استقلال لهؤلاء الآلهة بالشفاعة عنده لمن توسَّل بهم، وشرَعوا أنه لا يُدعى مع الله أحدٌ من ملك كريم، ولا صالح عظيم، مع أن المذنب العاصي لا يليق به في رأي المشركين أن يدعو الله تعالى بغير واسطة، ولا وسيلة لتدنُّسه بالذنوب، فيحتاج إلى من يقرِّبه إليه من أولئك الطاهرين، ومن الغريب أن هذه الشبهة الشركية لا تزال متسلسلة في جميع المشركين، الذين خالفوا نصوص الكتب الإلهية وسنة الرسل، إلى أعمال الوثنيين.
الألوكة