فقد استخدم العرب فعل "يَسَّرَه له" لمعنى: أعدَّه لأمر ما، وفي الإعداد تأتي كافة التسهيلات التي تتطلبها هذه العملية؛ فمثلًا: يَسَّرَ الفرسَ للركوب، فمعناه أعدَّه بما يجب من السرج والزمام، ولكي يستعدَّ الفرس لاستعمال الراكب؛ قال الشاعر المخضرم الأعرج المعني: وقمتُ إليه باللجام ميسِّرًا
هنالك يجزيني بما كنتُ أصنع[2]
"إليه"؛ أي: إلى الفرس الذي كان مستعدًّا للركوب.
وقال عمر بن أبي ربيعة المخزومي: ويَسَّرَها لنا الميمونُ حتى
لقيناها ببطنِ منًى تسير[3]
وقال مسكين الدارمي: أقاسمهم للمال في القُلِّ والغِنى
ويدفع عنهن السنين احتياليا
فهذا لأيامِ الطراد وهذه
للهوى وهذي يُسِّرتْ لارتحاليا[4]
فهنا ذكر ثلاثة أشياء: الفرس يسَّره للحرب، والجارية يسَّرها للسلم، وأما الناقة فيسَّرها للسفر.
ومنه أسباب الحرب التي تعدُّ للخوض في الحرب؛ فقال الأعشى الكبير:
و دروعٌ من نسج داوود في الحر
ب وسوق يُحمَلن فوقَ الجمال
مُلبَساتٌ مثل الرماد من الكُرْ
رَة من خشية الندى والطلال
لم يُيَسَّرْنَ للصديق ولكن
لقتال العدوِّ يومَ القتال[5]
وكذا تيسير السهم؛ فقال الأعشى الكبير: ويَسَّرَ سهمًا ذا غِرارٍ يسوقه
أمينُ القوى في صلبة المترنِّم [6]
وكذا إعداد الشرف للانحدار؛ فقال عمران بن حِطان الخارجي: وإنْ قلنا لعلَّ بها قرارًا
فما فيها لحيٍّ من قرار
أُرانا لا نملُّ العيشَ فيها
وأولِعنا بحرصٍ وانتظار
ولا تبقى ولا نبقى عليها
ولا في الأمر نأخذ بالخيار
ولكنَّا الغداةَ بنو سبيلٍ
على شَرَفٍ يُيَسَّرُ لانحدار[7]
و"بها"؛ أي: بالدنيا.
وهكذا إعداد الجفنة لليتامى والأرامل؛ كما قال أعشى نهشل: وجفنةٍ كنَضيحِ البئر مُتأفةً
ترى جوانبَها باللحم مفتوقا
يسَّرتَها ليتامى أو لأرملة
وكنتَ بالبائس المتروك محقوقا[8]
ومنه إعداد الطعام للضيف؛ لأن تجهيز الطعام يتطلب أشياء أخرى مثل التوابل؛ ليكون جاهزًا للتناول؛ فقال مسكين الدارمي: فقلت لها قومي إليه فيسِّري
طعامًا فإنَّ الضيفَ لا بدَّ نازل[9]
وقال الحطيئة: رأى شبحًا وسطَ الظلام فراعه
فلما بدا ضيفًا تسوَّر واهتمَّا
فقال ابنُه لما رآه بحيرةٍ
أيا أبتِ اذبحني ويَسِّرْ له طُعما[10]
وقال ذو الرمة: أتى دونَ طعمِ النوم تيسيريَ القرى
لها واحتيالي أيَّ جالٍ أجيلُها[11]
وهذا البيت يشير إلى ما يعانيه المرء في إعداد الطعام، و"لها"؛ أي: لسلمى.
ومن هنا استعير لتعضيد المرء بكل ما يحتاج إليه ليكون قابلًا لأمر مهمٍّ؛ فقال عدي بن زيد العبادي: وإذا ذكَّرتُ نفسي ما خلا
عاد في العين كتسهيد الرمَد
من أناسٍ كنتُ أرجو نفعَهم
أصبحوا قد خمدوا تحت البلد
وأُراني جاهدًا من بعدهم
في عِلاجِ المال تأميلُ البُعُد
كادحًا أحسبُ أني مُخلدٌ
جاهلُ اليوم وتسيري لغد
لا أرى حصنًا ينجِّي أهلَه
كلُّ حيٍّ لفناءٍ ونَفَد[12]
وقال مضرس بن ربحي وهو أوضح من ذي قبل: ونعين فاعلَنا على ما نابه
حتى نيسِّره لفعل السيد[13]
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: فيسَّرَ قومًا للهدى فتقدَّموا
وأهلكَ بالعصيان قومًا ودمَّرا[14]
وكذا قال أبو زيد الطائي: فنادَوا جميعًا بالسلاح مُيسَّرًا
وأصبح في حافاتهم يتنمَّر[15]
فبدا من النظر في هذه الشواهد أن تيسير الشيء لأمر ما يعني توفير التسهيلات الضرورية له؛ ليكون ذلك الشيء قابلًا لذاك الأمر.
ومنه قوله تعالى: ﴿ وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى ﴾ [الأعلى: 8].
وكذا قوله في سورة طه: ﴿ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ﴾ [طه: 26].
وبعد توضيح هذا الفعل، لنرجع إلى كلمة "الذكر"، ومنه "الادِّكار"، ونتتبع استخداماته في كلام العرب والقرآن الكريم؛ فقال عنترة بن شداد العبسي: فإنْ هم نسوني فالصوارمُ والقنا
تذكِّرهم فعلي ووقعَ مضاربي[16]
وقال أيضًا: تعزَّيتُ عن ذكري سميَّة حقبةً
فبُح عنك منها بالذي أنت بائح[17]
وله ما يلي: يا عبلَ إن سفكوا دمي ففعائلي
في كل يومٍ ذكرهنَّ جديد[18]
وقال الشنفري: أديم مِطالَ الجوع حتى أميته
وأضرب عنه الذكر صفحًا فأذهل[19]
وقال لبيد بن ربيعة العامري: بل ما تذكَّرُ من نوار وقد نأتْ
وتقطَّعتْ أسبابُها ورِمامُها[20]
و"تقطَّعت أسبابها" مثل قوله تعالى ﴿ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ﴾ [البقرة: 166].
وقالت الخنساء: كأنَّ عيني لذكراه إذا خطرتْ
فيض يسيل على الخدَّين مدرار[21]
وقالت أيضًا: حتى تفضُّوا جمعَهم وتذكَّروا
صخرًا ومصرعه بلا ثأر
وفوارسًا منا هنالك قُتِّلوا
في عثرة كانت من الدهر[22]
ولها كذلك: يؤرِّقني التذكُّر حين أمسِي
فأصبِحُ قد بُليتُ بفرط نكس[23]
والنكس هو الرجوع إلى المرض بعد النقاحة.
وقال حاتم الطائي: وتُذكَرُ أخلاقُ الفتى وعظامُه
مُغَيَّبَةٌ في اللحد بالٍ رميمُها[24]
وقال حسان بن ثابت الأنصاري: تذكر آلاء الرسول وما أرى
لها محصيًا نفسي فنفسي تبلَّد
مفجَّعة قد شفَّها فقدُ أحمد
فظلَّت لآلاء الرسول تعدِّد[25]
وقال أيضًا: وقد ضاربت فيه بنو الأوس كلهم
وكان لهم ذكر هناك رفيع[26]
وله أيضًا: أقسمتُ أنساها وأترك ذكرَها
حتى تغيَّب في الضريح عظامي[27]
أي: لا أنساها، فحذفت اللام بعد القسم، وهو أسلوب شائع للعربية.
وقال الكميت الأسدي: ستذكرنا منكم نفوس وأعين
ذوارفُ لم تضنن بدمعٍ غروبها[28]
معنى هذه الفقرة في هذه السورة: هذه الفقرة تكرر مجيئها في سورة القمر بعد مجموعة من الآيات، وفي كل هذه المجموعات يشير الله تعالى إلى أن هذه وتلك تدلُّك على ذكر آلاء الله تعالى من الخلق والموت، وكافة تسهيلات الحياة، والقرآن قد امتلأ بمثل هذه الآيات التي تأخذ بيدك إلى الصراط القصد السوي، فالتأويل الصحيح لهذه الفقرة هو أن القرآن هُيِّئ من كل جانب لتذكير التعليم الفطري؛ أي: إنه يمتلك دلائل عقلية ونقلية لإثبات الحقائق والأصول، فمن أنكر بها بعدُ فسيرتكب عنادًا وعتوًّا.
المصادر والمراجع:
1- القرآن الكريم.
2- جمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام؛ لأبي زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي، تحقيق: محمد علي البجادي، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، د.ت.
3- ديوان أبي بكر الصديق وجمهرة خطبه ووصاياه ورسائله، صنعة: الدكتور محمد شفيق البيطار، مطبوعات مجمع العربية السعيدة، ط1، 2020م.
4- ديوان الأعشى الكبير بشرح محمود إبراهيم محمد الرضواني، وزارة الثقافة والفنون والتراث، إدارة البحوث والدراسات الثقافية، الدوحة، قطر، 2010م.
5- ديوان الحطيئة، دراسة وتبويب: د. مفيد محمد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1993م.
6- ديوان الخنساء، اعتنى به وشرحه: حمدو طماس، دار المعرفة، بيروت، 2004م.
7- ديوان الشنفري، جمع وتحقيق: د. إيميل بديع يعقوب، دار الكتاب العربي، بيروت، ط2، 1996م.
8- ديوان الكميت بن زيد الأسدي، جمع وشرح وتحقيق: د. محمد نبيل طريفي، دار صادر، بيروت، ط1، 2000م.
9- ديوان المفضليات للمفضل الضبي، تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر، وعبدالسلام محمد هارون، دار المعارف، ط6.
10- ديوان حاتم الطائي، شرح: أبي صالح يحيى بن مدرك الطائي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1994م.
11- ديوان حسان بن ثابت، شرح وتقديم: الأستاذ عبدأ مهنا، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط2، 1994م.
12- ديوان ذي الرمة، تقديم وشرح: أحمد حسن بسج، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1995م.
13- ديوان عبيدالله بن قيس الرقيات، تحقيق وشرح: د. محمد يوسف نجم، دار صادر، بيروت، د.ت.
14- ديوان عدي بن زيد العبادي، تحقيق وجمع: محمد جبار المعيبد، شركة دار الجمهورية للنشر والطبع، بغداد، 1965م.
15- ديوان عمر بن أبي ربيعة المخزومي القرشي، مطبعة السعادة بجوار محافظة مصر.
16- ديوان لبيد بن ربيعة العامري، دار صادر، بيروت، د.ت.
17- ديوان مسكين الدارمي، جمع وتحقيق: عبدالله الجبوري وخليل إبراهيم العقبة، مطبعة دار البصرى، بغداد، ط:1، 1970م.
18- شرح ديوان الحماسة للعلامة التبريزي، دار القلم، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى.
19- شرح ديوان الحماسة، كتب حواشيه: غريد الشيخ، وضع فهارسه العامة: أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، 2000م.
20- شرح ديوان عنترة بن شداد العبسي، للعلامة التبريزي، دار الكتاب العربي، ط1، 1992م.
21- شعر أبي زيد الطائي، جمع وتحقيق: د. نوري حمودي القيسي، مطبعة المعارف، بغداد، 1967م.
22- شعر الراعي النميري وأخباره، جمع وتقديم وتعليق: ناصر الحاني، دمشق، 1964م.
23- شعر هدبة بن الخشرم العذري، صنعة الدكتور يحيى الجبوري، دار القلم للنشر والتوزيع، الكويت، ط2، 1986م.
24- الصبح المنير في شعر أبي بصير، مطبعة آدلف هلزهوسنين، بيانة، 1927م.
25- كتاب الأشباه والنظائر للخالديين، تحقيق: د. السيد محمد يوسف، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، د.ت.
26- كتاب الوحشيات لأبي تمام الطائي، تحقيق: عبدالعزيز الميمني الراجكوتي، وزيادة: محمود محمد شاكر، ط3، دار المعارف، القاهرة، مصر، 1968م.
27- النوادر في اللغة لأبي زيد الأنصاري، تحقيق ودراسة: د. محمد عبدالقادر أحمد، دار الشروق، بيروت، ط1، 1981م.
[1] مدير تحرير "مجلة الهند" الفصلية، وأستاذ مساعد، قسم اللغة العربية وآدابها، الجامعة الملية الإسلامية، نيودلهي.
[2] شرح ديوان الحماسة، 1/ 130.
[3] ديوانه، ص: 283.
[4] كتاب الأشباه والنظائر، 1/68، وقال هدبة بن الخشرم العذري:
خِيالٌ سرى من أمِّ عمرو ودونها
تنائفُ تُردِي ذا الهيابِ المُيَسَّرا
ديوانه، ص: 93، ذو الهياب: البعير القوي النشيط.
[5] ديوانه، 1/119.
[6] ديوانه، 1/316؛ أي: وتر أمين القوى.
[7] النوادر في اللغة، ص: 172.
[8] الصبح المنير في شعر أبي بصير، ص: 304.
[9] ديوانه، ص: 57.
[10] ديوانه، ص: 178.
[11] ديوانه، ص: 215.
[12] ديوانه، ص: 43.
[13] شرح ديوان الحماسة، 2/725 (غريد الشيخ).
[14] ديوانه، ص: 179.
[15] شعره، ص: 63.
[16] شرح ديوانه، ص: 36.
[17] شرح ديوانه، ص: 45 (الذي: ما).
[18] شرح ديوانه، ص: 56.
[19] ديوانه، ص: 62.
[20] جمهرة أشعار العرب، ص: 243.
[21] ديوانها، ص: 45.
[22] ديوانها، ص: 53.
[23] ديوانها، ص: 71.
[24] ديوانه، ص: 136.
[25] ديوانه، ص: 82.
[26] ديوانه، ص: 211.
[27] ديوانه، ص: 291.
[28] ديوانه، ص: 71.
[29] شرح ديوان الحماسة، 1/97.
[30] شرح ديوان الحماسة، 2/832 (غريد الشيخ).
[31] كتاب الوحشيات، ص: 263.
[32] ديوان المفضليات، ص: 356.
الألوكة
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك