الحمد لله
وإنما قد يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أحيانًا بما تحار فيه العقول ولا تدركه لعجزها وضعفها ،
لا بما تحيله العقول ولا تقبله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" ما جاء عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُ حَقٌّ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِفِطْرَةِ الْخَلَائِقِ ،
وَمَا جُعِلَ فِيهِمْ مِنْ الْعُقُولِ الصَّرِيحَةِ، والقصود الصَّحِيحَة ، لَا يُخَالِفُ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ ، وَلَا الْقَصْدَ الصَّحِيحَ ،
وَلَا الْفِطْرَةَ الْمُسْتَقِيمَةَ ، وَلَا النَّقْلَ الصَّحِيحَ الثَّابِتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا يَظُنُّ تَعَارُضَهَا :
مَنْ صَدَّقَ بِبَاطِلِ مِنْ النُّقُولِ ، أَوْ فَهِمَ مِنْهُ مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ ، أَوْ اعْتَقَدَ شَيْئًا ظَنَّهُ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ وَهُوَ مِنْ الجهليات ،
أَوْ مِنْ الْكُشُوفَاتِ وَهُوَ مِنْ الكسوفات إنْ كَانَ ذَلِكَ مُعَارِضًا لِمَنْقُولِ صَحِيحٍ وَإِلَّا عَارَضَ بِالْعَقْلِ الصَّرِيحِ ،
أَوْ الْكَشْفِ الصَّحِيح ِ، مَا يَظُنُّهُ مَنْقُولًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيَكُونُ كَذِبًا عَلَيْهِ ،
أَوْ مَا يَظُنُّهُ لَفْظًا دَالًّا عَلَى شَيْءٍ وَلَا يَكُونُ دَالًّا عَلَيْهِ " انتهى . "الرسالة العرشية" (ص: 35) .
وقال أيضا :
" ما خالف العقل الصريح فهو باطلٌ . وليس في الكتاب والسنَّةِ والإجماع باطل ،
ولكن فيه ألفاظ قد لا يفهمها بعضُ النَّاس ، أو يفهمون منها معنى باطلاً ، فالآفةُ منهم ،
لا من الكتاب والسُّنَّة " انتهى .
"مجموع الفتاوى" ( 11 / 490 ) .
وقال ابن القيم رحمه الله :
" الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يخبروا بما تحيله العقول وتقطع باستحالته ،
بل أخبارهم قسمان :
أحدهما : ما تشهد به العقول والفطر .
الثاني: ما لا تدركه العقول بمجردها ، كالغيوب التي أخبروا بها عن تفاصيل البرزخ واليوم الآخر
وتفاصيل الثواب والعقاب ، ولا يكون خبرهم محالا في العقول أصلا ، وكل خبر يظن أن العقل يحيله ،
فلا يخلو من أحد أمرين : إما أن يكون الخبر كذبا عليهم ، أو يكون ذلك العقل فاسدًا ،
وهو شبهة خيالية ، يظن صاحبها أنها معقول صريح " انتهى من "الروح" (ص 62) .
وينظر : "الصواعق المرسلة" (3/ 829-830).
وعلى ذلك : فقول الحافظ أبي الفرج ابن الجوزي رحمه الله :
" مَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْقَائِلِ : إِذَا رَأَيْتَ الْحَدِيثَ يُبَايِنُ الْمَعْقُولَ أَوْ يُخَالِفُ الْمَنْقُولَ أَوْ يُنَاقِضُ الْأُصُولَ :
فَاعْلَمْ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ " انتهى من "تدريب الراوي" (1/ 327).
فمخالفته لصريح العقل : أن يأتي بما يرده العقل ويأباه ، كحديث :
( إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْفَرَسَ فَأَجْرَاهَا فَعَرِقَتْ ، فَخَلَقَ نَفَسَهُ مِنْهَا ) .
قال السيوطي رحمه الله :
"هَذَا لَا يَضَعُهُ مُسْلِمٌ ، بَلْ وَلَا عَاقِلٌ ، وَالْمُتَّهَمُ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ كَانَ زَائِغًا فِي دِينِهِ "
انتهى من "تدريب الراوي" (1/ 328).
أما أن يأتي الحديث الصحيح بما لا سبيل للعقل إليه لنقصه وعجزه ، كأن يأتي ببعض المعجزات النبوية ،
أو يأتي ببعض الأخبار الغيبية : فمثل هذا يسمى " محارات العقول " ولا يسمى " محالات العقول "
فهو لا يخالف العقل ، ولكن يعجزه ويحيره ، فإما أن يسلم العبد به ويقبله ويقر بعجزه –
وتلك حال المؤمن – وإما أن يرفضه ويرده – وتلك حال الجاهل المكذب .
وكون النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الصحابي أن يدعو الشجرة فيدعوها فتنقاد إليه ،
أو كونه يمسك الجني ويخنقه حتى يجد برد لعابه بين أصبعيه :
فهذا من دلائل النبوة التي يجب تصديقها عند صحة الخبر بها ، فيزداد بها المؤمن إيمانًا ،
والكافر كفرانًا ؛ وليس في بدائه العقول ولا قضاياها ما يحكم باستحالة مثل ذلك ، أو يقضي ببطلانه ،
وإن عجز العقل عن إدراك كيفية ذلك ، أو الحكم بها ثبوتا أو نفيا ، من غير ورود الخبر به .
أما حديث : ( صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل ؛
فإنها خلقت من الشياطين ) رواه ابن ماجة (769) وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجة" .
فليس المراد به ـ على المشهور ـ أنها خلقت من الشياطين حقيقة ،
وإنما المراد أن أكل لحومها يورث قوة شيطانية نافرة ، والغاذي شبيه بالمغتذي ،
وأنها خلقت على صفة تشبه الجن في النفور والإيذاء ، فلذلك أمر بالوضوء من لحومها ،
ونهى عن الصلاة في أعطانها .
انظر : "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (20/523) (21/10) ،
"حاشية ابن عابدين" (1/380),
وينظر للفائدة جواب السؤال رقم : (6981).
والله تعالى أعلم .