إن المشاغل التي تشغل الإنسان في هذه الحياة الدنيا كثيرة ومتنوعة وأكثرها شغلا هو ما يخص المعيشة ولذلك يكابد الإنسان مشاق هذه الحياة ويسعى في الأرض ويجتهد لتحصيل رزقه , ولا يكاد يستريح إلا إذا أرخى الليل ستاره واسترخى على فراشه من عناء كد يوم طويل , فإذا أنسلخ الليل وأقبل ضياء النهار عاد ليكابد متاعب الحياة من جديد , قال تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ) البلد(4) .
إن قرار
العين هو سكونها عن شغل النظر والمتابعة بالبصر خلف المصالح الدنيوية , وقرار
العين يستوجب راحة البال وهدوء النفس ويجلب السكينة والطمأنينة للنفس البشرية ولذلك جعلت قرة عين رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة , فعن أنس بن مالك قال , قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم " حُبِّبَ إليَّ من دُنياكم : النِّساءُ و الطِّيبُ ، و جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيني في الصلاةِ " . صحيح الجامع , فلذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من الإطالة في صلاة الليل لما يجد فيها من راحة وأنس بالله , بل حتى في صلاة الفرائض كان يستشعر فيها السكينة والراحة , فعن رجل من خزاعة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " يا بلالُ ! أَقِمِ الصلاةَ ، أَرِحْنا بها " . صحيح الجامع .
إن من الأشياء التي تقر بها عين المؤمن هي الذرية الصالحة فهي مصدر بهجة للنفس وسرور يدخله الأطفال على أبائهم , فإذا لعب الأطفال بين يدي أبائهم كانت مشاعر الراحة تغمرهم وهم ينظرون إليهم حينما يعبثون بعفوية وهم في لهو ومرح , فوجود الأطفال بين الأسرة مطلب من مطالب زينة الحياة الدنيا ولذتها التي يحرص عليها الناس , قال تعالى (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ) الكهف (46) , إن حصول الذرية الصالحة تعد من نعم الله التي يهبها الله لمن يشاء , وهي من أسباب قرار
العين فكان الصالحون يطلبون الله في دعائهم أن يقر أعينهم بذرية صالحة تطيع الله ولا تعصيه ولا تكون مصدر أذى وشقاء لهم , قال تعالى (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) الفرقان(74), فهم يريدون ذرية صالحة لتقر أعينهم بهم ولا يريدونهم ذرية فاسدة تنشغل أعينهم بهم فلا تستريح ولا تستكين لكثرة السهر في تتبع مشاكلهم وعنادهم .
إن من علامات قرار
العين هو هدوء القلب وراحة البال والشعور بالسعادة ومفارقة الهموم والغموم وزوال المنغصات والمكدرات والاستمتاع بالنعم التي وهبت لك , وهذه النعم يصعب اجتماعها على الدوام في الدنيا ولا تتوفر هذه الأجواء مجتمعة إلا في الآخرة ولذلك , قال الله تعالى ( فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) السجدة(17) , فالدار الآخرة دار نعيم لا تجد فيها ما يكدر بصرك ولا يحزن فؤادك ولا يؤذي سمعك , إنها دار الخلد دار الجنان دار المتعة التي لا يكدرها شيء.
إن وصيفات امرأة فرعون آسية بنت مزاحم أحضروا لها موسى عليه السلام وهو طفل وجدوه قد وضع في صندوق على شاطئ البحر , فلما رأته القي في قلبها محبة موسى عليه السلام , فأخذته إلى قصرها لترعاه وتعتني به ليكون أبنا لها بالتبني ليدخل عليها السرور والفرحة كما يدخله الأطفال الصغار على أمهاتهم , فاستأذنت فرعون أن يهبه لها بدل قتله كما كان يفعل زبانيته مع أطفال بني إسرائيل , قال تعالى (وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ) القصص(9) , فأذن لها بتربيته والحفاظ عليه وهو كاره لطلبها خشية أن يكون هذا الطفل نبي بني إسرائيل الذي كان يتخوف من قدومه .
إن أعظم استقرار للنفس المؤمنة هو تقوية صلتها بالله وذلك عن طريق العمل الصالح الذي حث عليه ديننا الحنيف , فمن سار على هدى الصالحين واقتفى بعمله أثر سيد المرسلين فلا شك أنه من أصحاب الأنفس المطمئنة التي ترجو الجنة ونعيمها , أسأل الله أن يقر أعيننا بدخول الجنة وأن نكون من أهل الفردوس الأعلى ... والحمد لله رب العالمين .
« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
12-06-2017
