جلست أمام مرآتها الصّقيلة ، و قد كان يروق لها دوما الجلوس أمامها ، لترى على صفحتها صورتها الجميلة و محياها الفاتن بقسماته السّاحرة ، فتتغنى به و تنتشي .
إنّها الغادة الحسناء التي قلّ لها شبيه بين أترابها ، كانت تنظر إلى وجهها الصّافي صفاء اللّجة إذا خالطها ضياء القمر ليلة إكتماله ، فيزيدها بريقا يأسر كل ناظر ، بل هي إشراقة نور الصّباح لمّا يعانق الزّهر المتفتّح ، و ابتسامة الربيع التي تحيي الميت و تبعث فيه الروح من جديد .
هكذا كان شأنها مع مرآتها على مدار الأيام ، كانت فاتن معتدّة بنفسها ، مزهوّة بحسنها ، مترفّعة عن الرّجال ، متعالية عن النساء ، ساخرة من كل شاب يتقدّم لخطبتها ، فلا يهدأ لها بال ، و لا يسكن لها غضب حتّى تسمعه أنبى الكلمات و أقسى العبارات الممزوجة بنظرات الازدراء و إيماءات الاحتقار .
استقر في روعها أنّ كل شاب منهم يفتقر إلى شيء ما ، إما جمال أو مال أو جاه أو حسب ، و افتقاره إليه نقيصة و معيبة محال تقبّلها ، هكذا كانت ترى الأمور من وجهتها .
و قرّرت أنّها لن تكون زوجة إلا لفارس أحلامها و أمير أيّامها الذي يمتلك صفات الكمال و آيات الحسن و الدّلال ، فيخيّل إليها أنّها تراه ماثلا أمامها على صورة روميو و هي جالسة إلى جانبه في أفخم السيارات الفارهة ، يجوب بها شوارع المدن ، يسقيها كأس الهيام و يطربها بعزف الغرام ، لكنه لم يطرق بابها في واقع الحال و لم يدانيها إلا في سانحات الخيال !
في أحد الأيام دخلت إلى الصّائغ لتشتري خاتما ، فطلبت من البائع أن يعرض عليها أنواع الخواتم ، و لم تكلّف نفسها مؤونة النظر إلى وجهه استكبارا ، فقدّم إليها سلعته وبدأ يزيّنها لها ، فرفعت بصرها إليه لتنظر صاحب هذا الصوت الملائكي ، و إذ بها ترى شابا في العشرين من العمر على صورة فارس أحلامها المنتظر ، فاندهشت و اعتراها الذهول ، و من فرط إعجابها و سرورها سقطت علبة الخواتم من يدها ، فاحمر وجهها خجلا و تأسفت ، فقال الشاب في تواضع و أدب : لا عليك يا أمّاه .
لما سمعت تلك الكلمة خرّت مغشيا عليها ، و عندما أفاقت عادت مسرعة إلى البيت تحثّ الخطى ، و هي تتمتم : قال أمّاه ، أمّاه ، ماذا يعني بذلك؟ !
تهالكت على الكرسي أمام مرآتها ، فأذهلها ما تجلى لها ، قد نقرها الشّيب ، و تسلّل الذبول إلى وجهها كما يتسلّل إلى الزّهور آخر الربيع ، فيفني بهجتها و يأخذ عنوة رواءها ، و يسلب نضارتها الهوينا ، و ينثر عليها الاصفرار إيذانا بالأفول و الانطفاء .
بدأت تحدّق في كل أنش من محياها المتعب ، لقد قرعتها كلمة ـ أمّاه ـ و هزّت كيانها و زلزلت بنيانها ، أخذت تمسح المرآة المرّة تلو الأخرى ، و هي تحدّث نفسها : يا للهول ما الذي حدث ؟! أين رونقي السّاحر و جمالي الفاتن أيتها المرآة ؟! ما الذي أبهته و حلّ به و اعتراه ؟ لماذا خنتني اليوم يا مرآتي و أظهرت لي صورة غير الصورة التي ألفتها و أنِست بها طيلة صحبتي لك ؟! ما الذي دهاك يا مرآتي ؟ ! أين الخلل ، أعلى صفحتك أم على محيّاي ؟! نبّئيني يا مرآتي ، نبّئيني ! و انفجرت باكية .
أدركت فاتن حينها أنّها في أواخر العقد الرابع ، و أنّ غرورها حجب عنها تقدّمها في العمر حتى اعتقدت أنّ الزمن قد توقّف عند سن العشرين من شدّة عشقها لذاتها و اغتباطها بجمالها و بهائها ، فأيقنت أنّ الصّائغ حقا في سن ابنها لو تزوّجت مبكّرا .
قالت و دموع الحسرة تنسبل على وجنتيها : لطالما كذبت عليّ أيّتها المرآة الحقيرة و همّت بكسرها ثمّ أحجمت و هي تردد و النّدم يمزّق ما بداخلها : إنّه لا ذنب لك و ما أنت إلّا آلة تعكس صورة الماثل أمامهما ، أنا التي كذبت على نفسي حتّى انطمست الحقائق الجليّة نصب عيني ، فعميت عن رؤيتها .
ندمت فاتن حين لا ينفع النّدم و لا يغني عن صاحبه شيئا و غفلت عن جنود الزّمن و نسيت أنّ الليل و النّهار يقرّبان كل بعيد و يبليان كلّ جديد .
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك