إن حوادث الخير والشر التي تقع في أي مكان على الخلق هو قدر يقدره الله على
الإنسان ليبتلي الله به العباد وليختبرهم ثم يجزيهم أيهم أحسن عملا , قال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) الأنبياء (35) , فمن الناس من يقول أن الخير هو من عند الله أما الشر فمصدره
الإنسان والشيطان ولا يأتي الشر من عند الله أبدا , والحقيقة أن الشر والخير كله من عند الله , ومن عامة ما يقع من الخير هبة الحياة للمخلوق ومن عامة ما يقع من الشر مصيبة الموت فهو شر يصيب الله به العباد وكلاهما من عند الله , ولكن الشر ينقسم إلى قسمين : شر خارج عن إرادة
الإنسان وليس من تدبيره أو تصريفه بل هو قدر خالص من عند الله يبتلي الله به من يشاء من خلقه , وقسم آخر هو شر صادر من عمل المخلوق ومن اختياره وتدبيره , قال تعالى (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ) النساء(78) , وقال تعالى في ما يصدر من
الإنسان (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ال عمران(165).
إن الشرور التي من اختيار
الإنسان وتدبيره كمثل فعل المنكرات والمعاصي والذنوب , هو شر من فعله وكسبه واختياره وليس من تدبير الله ولا من القدر ألحتم المكتوب عليه , بل
الإنسان هو الذي أختاره وعمل على تحقيقه فإذا أذن الله بوقوعه وقع كما أختار العبد وكما أراده وإن لم يأذن الله فلن يقع حتى لو أختار ودبر وحرص على وقوعه والغالب أن الله لا يعارض أمرا أختاره العبد لنفسه إلا إذا تعارض اختياره قدرا مكتوبا أو عارضه دعاء مستجاب والدعاء المستجاب من القدر أو كان من الحكمة أن لا يقع , فمثلا الذي يريد السرقة أو الزنا أو القتل أو غيره من معاصي فلن يقع منه ما أراد حتى يأذن الله له مسبقا قبل وقوعه فإن لم يوجد لفعله معارض فلن يمنع الله وقوعه , قال تعالى (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) الكهف , فليس شيء يختاره
الإنسان يستطيع إيقاعه بدون أذن من الله , فأعمال
الإنسان ليست كاملة محضة من القدر بل تشترك معه , فهو قدر موهوب له واختيار من العبد وإذن من الله , وبعبارة أخرى } هي قدرة موهوبة ثم مشيئة العبد ثم مشيئة الله ثم يقع
العمل أو يمنع { , قال تعالى (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ) الإنسان(30) , فإذا أختار العبد فعل شيء وعزم على تنفيذه فإنه يحتاج لمشيئة الله أن تسبق فعله أي يحتاج لأذن من الله لفعل ذلك الفعل وإلا لن يقع مهما أجتهد ومهما كان نوع
العمل خيرا كان أو شرا , لذلك الرجل الصالح يدعو قبل أن يعمل , أي يطلب من الله أن ييسر تحصيل ذلك الأمر فإن أذن الله تيسر وإلا منع .
واختيار العبد للأفعال هي مشيئة العبد لها كانت خيرا أو شرا , فلو أختار معصية كأن يزني فإن الله لم يقدر عليه الزنا ولم يكتب عليه فعل الفاحشة فهو محرم عليه في كل كتاب أنزله , ولكنه قد يأذن بوقوع ما أختاره هو لنفسه فيكون الاختيار من العبد والفعل من العبد والأذن من الله ليقع ذلك الفعل , والله لا يأمر بالمنكر ولا يقدر فعله جبرا ولكن يأذن بوقوعه وقد يمنعه لحكمة , قال تعالى (وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) الأعراف (28) , أما إذا كانت الأحداث التي وقعت أمور قدرية كونية أو قدرية أرضية أو قدرية بشرية فهي خارجة عن سيطرة
الإنسان وتدبيره وليس له فيها تصرف كمثل الرزق والحياة والموت والذرية والحروب والأوبئة والرياح والأمطار والزلازل والخسوف والكسوف والجفاف والفيضانات وغيرها ممن يدبره الله ويصيب المخلوقات وتكون بقدر مكتوب , فهذه لا تدبير للإنسان فيها ولا اختيار ولا يقدم فيها ولا يؤخر, قال تعالى (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) الحديد(22) , وقال تعالى في القدر المرسل الذي نتج عن ذنوب الخلق (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) الشورى(30) , و تسليط العقوبة وإرسالها خارج تدبير
الإنسان وقدرته.
إن
العمل أو القول يقع من
الإنسان على خطوات مترابطة متتابعة , فيبدأ
العمل مثلا في اختيار ما يريد فعله لتنعقد النية ثم يفكر فيه ويتدبر كيف السبيل لتنفيذه والقيام به ثم إذا انتهى من التدبر عزم على تحقيقه , وهذا كله يجتمع تحت مسمى مشيئة العبد قبل
العمل , ثانيا لا بد من أذن الله له في أن يحقق ما اختاره لنفسه من عمل وذلك بأمور أولا أن يملك القدرة على فعله بما وهبه الله من قدرة وإمكانيات لتحقيقه , وهنا مكان القدر الموهوب له , أي لا بد من أن تملك القدرة المنفذة من صحة في البدن وإمكانيات عقلية ومهارات فنية وكل ما تحتاجه لتحقيق أي عمل اخترته لتتوافق مع السنن البشرية , ثانيا عدم حدوث عوارض خارجية تتعارض مع تحقيق ذلك
العمل ومنها أمور قدرية أو دعاء مستجاب أو حكمة إلهية خفية.
فلو أراد لص مثلا أن يسرق سيارة , فأول شيء يبدأ به السارق أن يحدد أي سيارة يريد أن يسرقها , فإذا تعينت في عقله سيارة ما رآها في مكان ما فقد أختار ما يود سرقته وانعقدت النية على سرقة سيارة متوقفة في أحد الأحياء مثلا , ثانيا يبدأ بتدبر الطريقة المثلى لسرقة تلك السيارة والفرار بها من غير أن يشعر به أحد , فإذا انتهى من هذه الخطوة فأنه سيعزم على التنفيذ , و كل هذا يسمى مشيئة اللص أي كل هذا التخطيط من اختياره وتدبره مع نفسه وما قذفه الشيطان في قلبه من معصية يدخل ضمن مشيئة العبد ويقع كله قبل التنفيذ , وبعد هذا يحتاج اللص من غير أن يشعر أن يأذن الله بوقوع هذه ( المعصية ) السرقة , فإنه لا يقع شيء في الأرض ولا في السماء إلا بعلمه وبمشيئته , قال تعالى (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) الأنعام (59) , قال تعالى (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) يونس(61) , قال تعالى (إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء ) البقرة(5) , وقال تعالى (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ) الإنسان(30) , فيستحيل أن يقع شيء من غير علم الله ومن غير مشيئته ( أي اختياره ).
فإن كان
العمل خيرا فيقع بإذنه وإن كان شرا فكذلك يقع بأذنه ليتحمل صاحبه جزاء ما صنع , قال تعالى (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) النجم(31) , وإن لم يأذن الله فلن يقع ما أختاره ورتب له وستكون أمامه عراقيل تحول بينه وبين تنفيذ ما أراد سرقته كمثل أن يتغير مكان السيارة أو يتواجد أصحابها في نفس المكان وقت التنفيذ وغيرها من أمور معطلة , وهذه العرقلة من الله لحكمة يعلمها الله ويجهلها الناس بل أصحاب السيارة لا يعلمون كيف حفظت سيارتهم من السرقة , فإذا لم يجد اللص أمامه أية عراقيل ونفذ سرقته ونجح في ذلك , فإن الله قد أذن بوقوع ما أقدم عليه اللص من سرقة إما ابتلاء لصاحب السيارة أو عقوبة له أو لحكم أخرى يعلمها الله , والغالب أن الله يجعل العراقيل في طريق المفسدين الذين يعم فسادهم ويطول أثر ما يعملون خلقا كثيرا , ولا يتحقق من مكرهم إلا القليل , قال تعالى (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ) البقرة(205) , ومن العراقيل في وجه المفسدين أن يدفعهم بالصالحين الذين ينكرون عليهم , قال تعالى (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) البقرة(251) , فالفساد العام يدفعه الله كثيرا ويسخر له من يزيله , كمثل ما يفعله اليهود من فساد في الأرض قال تعالى (كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) المائدة (64).
فكم خطط فرعون وهمان وجنودهما لهلاك موسى عليه السلام وقوم بني إسرائيل معه , ولكن بآت خططهم بالفشل وقطع الله دابرهم ورد كيد الذين كفروا في نحورهم , قال تعالى (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ) غافر(26) ولم يستطع فرعون قتله أو التمكن منه , قال تعالى (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ) البقرة (50) بل كان الموت لفرعون وجنوده ولم يتحقق من كيدهم شيئا , وكذلك قصة أصحاب الفيل فيها من العبر العظيمة في رد المفسدين في الأرض وكيف أن منعهم الله من أن يصلوا إلى مرادهم بعد تخطيطهم وحشودهم ومسيرهم لهدم الكعبة ثم حال الله بينهم وبين ما أرادوا بجيش من الطيور التي أبادتهم ومزقتهم كل ممزق , وقال تعالى (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ (5) الفيل , فليس كل عمل فساد يتحقق إلا إذا شاء الله أن يقع ليبتلي الناس به.
إن كل عمل يسعى
الإنسان إلى تحقيقه كان عمل خير أو عمل شر فهو من أمر الله إن شاء أذن في وقوعه وأمضاه وإن شاء حال بينه وبين وقوعه ومنعه , وكلا الأمرين هو من حكمته فله الحكمة البالغة في كل شيء, قال تعالى (وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الْأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ) النجم(5) , ولقد أدعى بعض أهل الكفر أن الكفر الذي هم فيه بسبب أن الله جبرهم على الكفر وخلقهم كفار , والحق أن الله خلقهم على التوحيد ثم انحرفوا إلى عقائد فاسدة , فعن عياض بن حمار قال : أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قال ، ذاتَ يومٍ في خطبتِه " ألا إنَّ ربي أمرني أن أُعلِّمكم ما جهلتم مما علَّمني ، يومي هذا . كل مالٍ نحلتُه عبدًا حلالٌ . وإني خلقتُ عبادي حنفاءَ كلهم . وإنهم أتتهم الشياطينُ فاجتالتهم عن دينهم . وحرَّمتُ عليهم ما أحللتُ لهم . وأمرتهم أن يُشركوا بي ما لم أنزلَ بهِ سلطانًا . وإنَّ اللهَ نظر إلى أهلِ الأرضِ فمقتَهم ، عربِهم وعجمهم ، إلا بقايا من أهلِ الكتابِ ... تتمة ) رواه مسلم .
إن الله خلق الناس على الفطرة فطرة الإسلام ولم يجبرهم على الكفر فمن أجتهد في معرفة ربه والبحث عن الحق فإن الله يدله ويرشده إلى الفطرة التي خلق عليها فطرة التوحيد , قال تعالى (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) العنكبوت(69) , فلن يجبر الله أحدا على الإيمان به بل تركهم ليختاروا , قال تعالى (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ (100) , وما كان الله ليجبر الناس على الكفر به إذ لم يجبرهم على الإيمان به بل تركهم يختارون لأنفسهم من شاء أمن ومن شاء كفر , قال تعالى (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ )(29) الكهف , ولم يقدر الله الكفر على الناس ولم يرضاه لهم , قال تعالى (إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ) الزمر(7) , والشكر في هذه الآية المراد به الإيمان .
إن الله يعلم بعمل
الإنسان قبل أن يعمل به ولكن الله لم يكتب عمله قبل أن يحدثه , بل تكتبه الملائكة بعد أن يعمله , ولذلك أشهد عليه ملائكة وجعل كتبة عن يمينه وعن شماله يكتبون عمل يقوم به
الإنسان في اليوم والليلة , فلو كان عمله الذي سيحدثه مكتوبا من قبل فلما الملائكة تكتبه مرة ثانية , قال تعالى (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) الزمر(80) , والله أعظم شاهدا على خلقه , قال تعالى (قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ) الأسراء(96) , فعلم الله بعمل
الإنسان لا يقتضي كتابته على
الإنسان بل يترك حتى يعمله ثم يسجل عليه وهذا من عدله سبحانه وتعالى بخلقه , فعلمه بك أنك ستكون كافرا في حياتك لا يقتضي أن يسجل الملكان عمل الكفر في صحيفتك مسبقا قبل أن يقع , فهما لا يعلمان ما يعلمه الله عن كل مخلوق بل لا بد أن تمنح الفرصة لتعمل وتختبر فإما أن تختار طريق الجنة أو تختار طريق النار , قال تعالى (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)
الإنسان , أي دللناه إلى طريق الخير ليسلكه ثم يشكر نعمة الله عليه , وحذرناه من طريق الشر ليتجنبه فإن وقع في الشر فقد كفر بنعمة الله.
إن على
الإنسان أن يطلب الهداية من الله وأن يجتهد في معرفة الحق ليعمل به ولا يجتهد لمعرفة ما علمه الله عنه في علم الغيب عنده فذلك محظور على الخلق , فليس بمقدور
الإنسان معرفة ما في الغيب وليس بمقدور أحد معرفة مآلات الخلق من سيكون مصيره إلى الجنة ومن سيكون إلى النار , ولكن في مقدورك اختيار الطريق الصحيح ودعاء الله أن يثبتك عليه وأن يوفقك للعمل الصالح وأن يدخلك الجنة مع المؤمنين وهذا هو الحق المبين ... والحمد لله رب العالمين .