يتلقّى الوحي من السماء ، غير أن المشاعر الإنسانية المختلفة
تنتابه كغيره من البشر وتمر به حالات من الضحك والبكاء والفرح والحزن
في وضع هذه المشاعر المتباينة في إطارها الشرعي ، حيث صانها
عن الإفراط والتفريط بل أضاف لها بُعْداً راقياً حينما ربطها بقضيّة الثواب والاحتساب
فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( تبسمك في وجه أخيك صدقة ) رواه الترمذي ( لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طَلِق (ضاحك مستبشر))
رواه مسلم .
ولا شك أن من مكارم الأخلاق إدخال السرور على المسلم ومن ثم فقد كان مزاحه ـ صلى الله عليه وسلم ـ تأليفا ومداعبة وتفاعلا مع أهله وأصحابه ، وإدخالا للسرور عليهم وكان مشتملاً على كل المعاني الجميلة ، والمقاصد النبيلة فصار من شمائله الحسنة
قال : ( ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ) رواه الترمذي .
والضحك والمزاح أمر مشروع كما دلت علي ذلك النصوص القولية
إلا لحاجة الفطرة الإنسانية إلي شيء من الترويح ، يخفف عنها أعباء الحياة وقسوتها
ولا يترتب عليه ضرر ، بل هو مطلوب ومرغوب ، لأن النفس بطبعها يعتريها السآمة والملل فلا بد من فترات راحة ، وليس أدل على مشروعية الضحك والمزاح والحاجة إليه
فقد كان يداعب أهله ، ويمازح أصحابه ، ويضحك لضحكهم .
وقد سئل ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : نعم ، والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبل .
وقال بلال بن سعد
أدركتهم يضحك بعضهم إلى بعض ، فإذا كان الليل لا، كانوا رهبانا .
مقيد بضوابط لابد وأن تُراعى ، منها :
ألا يقع في الكذب ليضحك الناس ،
ولهذا قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( ويل للذي يحدث فيكذب ، ليضحك القوم ، ويل له ، ويل له، ويل له ) رواه الترمذي .
وقد كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يمزح ويضحك ولا يقول إلا حقا وصدقا ، ومن ثم فينبغي ألا يشتمل المزاح والضحك علي تحقير لإنسان آخر ، أو استهزاء به
وسخرية منه ، قال الله تعالي : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ
وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (الحجرات:11) .
( بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ) رواه مسلم .
ألا يترتب عليه تفزيع وترويع لمسلم ، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( لا يحل لمسلم أن يروع مسلما ) رواه أبو داود .
وأن يكون بقدر يسير معقول ، وفي حدود الاعتدال والتوازن ، الذي تقبله الفطرة السليمة
ويرضاه العقل الرشيد ، ويتوافق مع المجتمع الإيجابي العامل ،
( يا أبا هريرة أقل الضحك ، فإن كثرة الضحك تميت القلب ) رواه ابن ماجه ).
فالمنهي عنه هو الإكثار ، فالمبالغة في المزاح والضحك يُخشي
من ورائه الإلهاء عن الأعباء ، أو تجرؤ السفهاء ، أو إغضاب الأصدقاء،
أو الوقوع فيما حرم الله .
فهي كثيرة ومتنوعة ، فتجده ـ صلى الله عليه وسلم ـ يضحك فرحا بكرامة وفتح لأمته ، أو تفاعلا مع أصحابه، أو مداعبة لزوجاته ، أو لإدخال السرور على الأطفال .
مع أمته :
عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: فضحك فى منامه ، فلما استيقظ قالت له امرأة من نسائه :
لقد ضحكت فى منامك فما أضحكك ؟ ، قال : أعجب من ناس من أمتي
يركبون هذا البحر هول العدو ، يجاهدون في سبيل الله ، فذكر لهم خيرا كثيرا ) رواه أحمد ، وفي رواية: ( يركبون هذا البحر كالملوك على الأسِرَّة ) .
وعن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال : وآخر أهل النار خروجا منها، رجل يؤتى به يوم القيامة، فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، وارفعوا عنه كبارها، فتعرض عليه صغار ذنوبه، فيقال: عملت يوم كذا وكذا، كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا ، كذا وكذا ، فيقول نعم ، لا يستطيع أن ينكر،
وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه، فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة،
فيقول: رب قد عملت أشياء لا أراها ها هنا،
فلقد رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضحك حتى بدت نواجذه (أضراسه) رواه مسلم .
مع أصحابه :
عن جرير ـ رضي الله عنه ـ قال: ( ما حجبني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ منذ أسلمت ، ولا رآني إلا تبسم في وجهي ) وفي رواية : رواه ابن ماجه .
وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ : قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنا حاملوك على ولد ناقة ، قال : وما أصنع بولد الناقة ؟!، فكان قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مداعبة للرجل ومزاحاً معه ، وهو حق لا باطل فيه .
وعن عبد الله بن مغفل قال: ( أصبت جرابا من شحم يوم خيبر ، قال: فالتزمته (احتضنته) ،
فقلت لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا، قال :
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : ( قالوا يا رسول الله : إنك تداعبنا ، قال : نعم ، غير أني لا أقول إلا حقا ) رواه الترمذي .
مع الأطفال :
من أحسن الناس خَلَقا ، فأرسلني يوما لحاجة ، فقلت : والله لا أذهب
فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق ،
قال : فنظرت إليه وهو يضحك، فقال : يا أنيس ، أذهبت حيث أمرتك ؟
قال : قلت : نعم ، أنا أذهب يا رسول الله ) رواه مسلم .
قائلا : ( يا ذا الأذنين ) رواه أبو داود .
وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : وكان لي أخ يقال له أبو عمير ، وكان إذا جاء قال : يا أبا عمير ما فعل النغير(طائر صغير)
رواه البخاري.
مع زوجاته :
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : ولم أبدن ، فقال للناس : تقدموا، فتقدموا، ثم قال لي : تعالي حتى أسابقك فسابقته فسبقته فسكت عني حتى إذا حملت اللحم و بدنت و نسيت خرجت معه في بعض أسفاره
فقال للناس : تقدموا، فتقدمواثم قال : تعالي حتى أسابقك ، فسابقته فسبقني
فجعل يضحك وهو يقول : هذه بتلك ) رواه أحمد .
وروى أبو يعلى عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : والنبي - صلى الله عليه وسلم - بيني وبينها ، فقلت لها : كلي ، فأبت فقلت : لتأكلنَّ أو لألطخن وجهك ، فأبت ، فوضعت يدي في الخزيرة فطليت بها وجهها
فقال لها : ( ما هذا ؟ ، قالت : بناتي، قال ما هذا الذي في وسطهن ؟ ، قالت : فرس
قال : ما هذا الذي عليه ؟ ، قالت : جناحان ، قال : فرس لها جناحان ؟ قالت : أو ما سمعت أنه كان لسليمان بن داود خيل لها أجنحة ؟!
وليس هناك من تعددت لديه الواجبات كما تعددت لدى الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم فلقد كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ إماما للناس ، ومعلما للدين ، وحاكما وقاضيا ، وقائدا للجيوش ، كما كان أبا رحيما ، وزوجا بارا ، وصاحبا وفيا ،
ومع هذا كله فقد كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضحاكًا بساماً ، يربي ويهذب بالابتسامة والممازحة ، فلضحكاته منافع ، ولابتساماته وممازحاته مقاصد وفوائد ، لأخذ الناس أنفسهم بذلك ، على ما فيه من مخالفة الفطرة من المشقة والعناء .
قال الإمام النووي :
" المزاح المنهي عنه هو الذي فيه إفراط ويداوم عليه ، فإنه يورث الضحك وقسوة القلب ويشغل عن ذكر الله تعالى ، ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء ، ويورث الأحقاد ويسقط المهابة والوقار ، فأما من سلم من هذه الأمور فهو المباح الذي كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفعله " .
وقال رجل لسفيان بن عيينة : المزاح هجنة أي مستنكر؟! ، فقال : " بل هو سُنَّة
ولكن لمن يُحسنه ويضعه في موضعه "