هناك نعماً خص الله بها فئة من الناس وحرمها فئة أخرى ، ابتلاء منه سبحانه ، وتمحيصاً لعباده ، ليميز الخبيث من الطيب ، قال تعالى : " ولله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور * أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً إنه عليم قدير " ، فمن أعظم النعم على الإنسان بعد نعمة الإسلام ، نعمة الولد ، ولا سيما الولد الصالح ، نعمة الولد لا يعرف قدرها إلا من حُرمها .
أولادنا ثمار قلوبنا ، وعماد ظهورنا ، وفلذات أكبادنا ، وأحشاء أفئدتنا ، وزينة حياتنا ، قال تعالى : " المال والبنون زينة الحياة الدنيا " ، الأولاد قرة الأعين ، وبهجة الحياة ، وأنس العيش ، بهم يحلو العمر ، وعليهم تعلق الآمال ، وببركة تربيتهم يستجلب الرزق ، وتنزل الرحمة ، ويضاعف الأجر ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ .
أيها الناس : لقد تفاقم الوضع ، وتعاظم الأمر ، وتطاير الشرر ، عندما تخلى الآباء عن مسؤولية التربية الصحيحة ، وأهملوا الإلمام بأسس العناية السليمة ، فليست التربية عنف كلها ، ولا رخو جلها ، بل : شدة في غير عنف ، ولين في غير ضعف ، هكذا هي التربية ، أما أن يعتقد أب ، أو تظن أم ، أن التربية تكبيل بالسلاسل ، وضرب بالحديد والمناشير ، وسجن في غرفة مظلمة مدلهمة ، فيخرج لنا جيل تسيل دماؤه ، وتنتفخ أوداجه ، يخاف من خياله ، ويهرب من ظله ، ويغضب ويثور لأتفه الأسباب ، فيكن العداء لأمته ، والبغضاء لوطنه ، فليس ذلك بمطلوب ولا مرغوب ، ألا فاعلموا أيها الناس أن شريعة الإسلام لم تأت بمثل هذا العنف والجبروت ، والهجية والعنجهية ، بل الإسلام دين الرحمة والرأفة ، لاسيما الرحمة ببني الإنسان ، أخرج أبو داود من حديث عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، أَنَّ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ ، وَجَدَ رَجُلًا وَهُوَ عَلَى حِمْصَ ، يُشَمِّسُ نَاسًا مِنَ الْقِبْطِ فِي أَدَاءِ الْجِزْيَةِ ـ يحبسهم في الشمس ـ فَقَالَ مَا هَذَا ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا " ، وقال رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ " [ متفق عليه ] ، فاتقوا الله أيها الآباء في فلذات الأكباد ، ولا يقودنكم الغضب لظلم أبنائكم والإساءة إليهم ، ثم تطلبون صلاحهم وطاعتهم ، فذلكم النقيض وضده ، ولا يلتقي النقيضان ، وربما كان هناك آباء فقدوا زمام التربية ، فانحل أبناؤهم ، وضاع أولادهم ، فلم ينصاعوا لأوامرهم ، وهذا أمر مشاهد وملموس ، فهؤلاء الشباب الذين تجاوزوا العشرين من أعمارهم أو أقل ، تراهم في الطرقات ، وفي السيارات ، ضياع وتيه ، تعرفهم بسيماهم ، قبلتهم الملاعب ، وتجارتهم المثالب ، شرهم أكثر من خيرهم ، آذوا الجار ، وامتحنوا القريب وبعيد الدار ، إذا سألت عن أخبارهم ، تنبؤك عنها طواقيهم وقبعاتهم ، غطرسة وعربدة ، أينعت رؤوسهم وحان قطافها ، فأين عنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، لقد فقدت الأمة درته ، وسُلبت هيبته ، فمن ضعف أمام أبنائه ، فلا يتركهم هملاً وسبهللاً ، بل يخبر عنهم الجهات المختصة حتى يكفون شرهم عن الناس ، والدولة الرشيدة رعاها الله ، اهتمت بالآباء منذ نعومة أظفارهم ، فلن تعجز في هذا المضمار من ردع سفلة الشباب الضائع ، وسفهاء الطبائع ، قال ابن القيم رحمه الله : " من أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى ، فقد أساء إليه غاية الإساءة ، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم ، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه ، فأضاعوهم صغاراً فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم " ، قال القائل :
عَوِّد بنيك على الآداب في الصِّغَر *** كيما تَقَرَّ بهـم عينـاك في الكِبـَرِ
فإنمـا مَثَـل الآداب تـجمعها *** في عنفوان الصبا كالنقش في الحَجَر
( منقول من صيد الفوائد )
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك