قسم بعض العلماء الرواة قسمين، الأول: قسم عرف بالفقه والتقدم في الاجتهاد كالخلفاء الراشدين وابن مسعود وابن عباس ومعاذ وعائشة، فهؤلاء وأمثالهم ممن عرف بالفقه والنظر حديثهم حجة سواءً وافق القياس أو خالفه، والآخر: معروف بالعدالة والضبط دون الفقه والفتيا كأبي هريرة وأنس بن مالك -رضي الله عنهما- فهؤلاء إن وافق حديثهم القياس عملوا به، وإن خالفه عرضوه علي الاجتهاد فإن وجدوا له وجهًا من التخريج قَبلوه وإلا فلا، فأصحاب هذا الرأي يشترطون في قبول خبر الواحد أحد شرطين: فقه الراوي أو موافقة الخبر للقياس، فلو انتفي أحد الشرطين لم يُقبل الخبر، وبهذا الرأي قال عيسي بن أبان وتابعه عليه القاضي أبو زيد وأكثر متأخري الحنفية ومنهم الدبوسي.( )
والتعارض المقصود هنا بين القياس وخبر الراوي غير الفقيه يشترط فيه: أن يكون تعارضًا من كل وجه، أما إذا تعارضًا من وجه دون وجه بأن يكون أحدهما أعمَّ والآخر أخصَّ فالجمع بينهما مهما أمكن واجب بأن يخصص الأعم بالأخص، وفي ذلك يقول صاحب المنار: "والراوي إن عرف بالفقه والتقدم في الاجتهاد كالخلفاء الراشدين والعبادلة كان حديثه حجة يترك به القياس خلافًا لمالك، وإن عرف بالعدالة دون الفقه كأنس وأبي هريرة إن وافق حديثه القياس عمل به، وإن خالفه لم يترك إلا لضرورة كحديث المصرّاة".( )
والمراد بالضرورة أن يخالف الحديث جميع الأقيسة، أما إذا اجتهد المجتهد فوجد لذلك الخبر وجهًا من التخريج أن كان يخالف قياسًا ولكنه يوافق من بعض الوجوه قياسًا آخر فلا يترك ذلك الخبر ولكن يعمل به؛ إذ إنه لم ينسد فيه باب الرأي من كل الوجوه.( )
وفسر البزدوي الضبط تفسيرًا دقيقًا خاصًا فجعله يشمل الحفظ والفقه معًا، فيعني عنده سماع الكلام كما يحق سماعه ثم فهمه بمعناه الذي أريد به ثم حفظه ببذل المجهود له، ثم الثبات عليه بمحافظة حدوده ومراقبته بمذاكرته على إساءة الظن بنفسه إلى حين أدائه، وهو نوعان؛ الأول: ضبط المتن بصيغته ومعناه لغة، والآخر: أن يضم إلى هذه الجملة ضبط معناه فقهًا وشريعة وهذا أكملها، والمطلق من الضبط يتناول الكامل( )، وقريب من كلام البزدوي يأتي تقسيم السرخسي للضبط إلى نوعين ظاهر وباطن.( )
ولكننا نلاحظ: أن ما ذهب إليه البزدوي وغيره في تعريف الضبط لا يفيد اشتراط فقه الراوي في قبول روايته، وإنما يهدف إلى ترجيح رواية الحافظ الفقيه عند تعارضها مع رواية غير الفقيه؛ لأن الفقيه أضبط وأشدّ تحريًا وأكثر فهمًا للدين.
وقد جاء الترجيح بفقه الراوي علي لسان أبي حنيفة في مجادلته مع الأوزاعي، فقد روى سفيان بن عيينة قال: "اجتمع أبو حنيفة والأوزاعي في دار الحناطين، فقال الأوزاعي: ما بالكم لا ترفعون عند الركوع والرفع منه؟ فقال: لأجل أنه لم يصحّ عن رسول الله فيه شيء، فقال الأوزاعي: كيف لم يصحّ وقد حدثني الزهري عن سالم عن أبيه: أن رسول الله كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة وعند الركوع وعند الرفع منه؟ فقال أبو حنيفة: حدثنا حماد عن إبراهيم عن علقمة والأسود عن عبد الله بن مسعود : أن النبي كان لا يرفع يديه إلا عند افتتاح الصلاة ثم لا يعود لشيء من ذلك، فقال الأوزاعي: أحدثك عن الزهري عن سالم عن أبيه وتقول: حدثني حماد عن إبراهيم عن علقمة؟ فقال أبو حنيفة: كان حماد أفقه من الزهري، وكان إبراهيم أفقه من سالم، وعلقمة ليس بدون من ابن عمر في الفقه، وإن كانت لابن عمر فضل الصحبة؛ فالأسود له فضل كثير، وعبد الله عبد الله"، يقول الكمال بن الهمام معلقًا: فرجح بفقه الرواة كما رجح الأوزاعي بعلو الإسناد، وهو المذهب المنصور عندنا.( )
وهذه المناظرة تدل على أن أبا حنيفة كان يلاحظ فقه الراوي عند الترجيح، فهو يقدّم رواية الأفقه على من دونه فقهًا، ولذلك تقصر رواية غير الفقيه علي أن تعارض رواية الفقيه؛ إذ الأول أشد وعيًا وأقوى ضبطًا وأكمل إدراكًا وأولى بالاتباع.( )
وروي الخطيب بسنده عن علي بن خشرم، قال: "قال لنا وكيع: أي الإسنادين أحب إليكم: الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله، أو سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله؟ فقلنا: الأعمش عن أبي وائل، فقال: يا سبحان الله! الأعمش شيخ وأبو وائل شيخ، وسفيان فقيه ومنصور فقيه وإبراهيم فقيه وعلقمة فقيه، وحديث تداوله الفقهاء خير من أن يتداوله الشيوخ ".( )
قال ابن الأثير - بعدما أورد الرواية -: "فهذا من طريق الفقهاء رُباعي إلى ابن مسعود، وثنائي من طريق المشايخ، ومع ذلك قُدِّم الرباعي لأجل فِقْه رجاله".( )
وممن اشترط الفقه في الراوي ابن حزم الظاهري، لكن الذي يفهم من كلامه أنه يشترط فقه الراوي مطلقًا سواء خالف القياس أم لا، حيث يقول في تعريفه للضبط: "هو ألا يكون المحدث إلا فقيهًا فيما روى، أي حافظًا، لأن النص الوارد في قبول نذارة النافر للتفقه، إنما هو بشرط أن يتفقه في العلم ومن لم يحفظ ما روى فلم يتفقه وإذا لم يتفقه فليس مما أمرنا بقبول نذارته". ( )
وإلى ذلك ذهب ابن حبان؛ حيث قال: "الثقة الحافظ إذا حدث من حفظه وليس بفقيه لا يجوز عندي الاحتجاج بخبره؛ لأن الحفاظ الذين رأيناهم أكثرهم كانوا يحفظون الطرق والأسانيد دون المتون، ولقد كنا نجالسهم برهة من دهرنا على المذاكرة ولا أراهم يذكرون من متن الخبر إلا كلمة واحدة يشيرون إليها ... فإن كان الثقة الحافظ لم يكن فقيهًا وحدث من حفظه فربما قلب المتن وغير المعنى حتى يذهب الخبر عن معنى ما جاء فيه ويقلب إلى شيء ليس منه وهو لا يعلم".( )
ويقول ابن رجب الحنبلي معلقًا علي كلام ابن حبان: "وليس هذا علي إطلاقه، وإنما هو مختص بمن عرف منه عدم حفظ المتون وضبطها، أو لعله يختص بالمتأخرين من الحفاظ نحو من كان في عصر ابن حبان، فأما المتقدمون كشعبة والأعمش وأبي إسحاق ونحوهم فلا يقول ذلك أحد في حقهم؛ لأن الظاهر من حال الحافظ المتقن حفظ الإسناد والمتن إلا أن يوقف منه علي خلاف ذلك، وقد سبق قول الشافعي أن من حدث بالمعنى ولم يحفظ لفظ الحديث أنه يشترط فيه أن يكون عاقلًا لما يحدث به من المعاني، عالمًا بما يحيل المعنى من الألفاظ، وأن من حدث بالألفاظ فإنه يشترط أن يكون متقنًا له".( )
وينبغي هنا أن نشير إلى أن الترجيح بين الخبر الذي يرويه غير فقيه وبين القياس جعله بعضهم فيما إذا كان مرويًا بالمعنى دون ما إذا كان مرويًا باللفظ، وقد نسب ذلك القول للحنفية وبعض المحدثين. ( )
ولهذا قال بعضهم: إن قياس مذهب أهل الحديث عدم الترجيح بفقه الراوي؛ لأن نقل الحديث بالمعنى لا يصح عندهم أصلًا، فيستوي في النقل الفقيه وغير الفقيه. ( )
ولكن الذي ذهب إليه أكثرهم: أن الترجيح يقع سواء كان مرويًا باللفظ أو المعنى، ولهذا وصف اللكنوي في شرحه مذهب التفصيل بأنه تحكم، ( ) ويقول عبد العزيز البخاري: "والحق: أنه يقع به الترجيح مطلقًا". ( )
واستدل أصحاب هذا المذهب على رأيهم بما يلي:
1-الدليل ينفي جواز العمل بخبر الواحد لقوله (تعالي):﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾. ( )وهذا الدليل خولف إذا كان الراوي فقيهًا؛ لأن الاعتماد على روايته أوثق، فوجب بقاء ما عداه على أصل المنع. ( )
وأجيب عن هذا الاستدلال بأن: عدالة الراوي تغلب على الظن صدقه، والعمل بالظن واجب كما هو مقرر، كذلك يرد هذا الاستدلال قوله : "نضّر الله امرأ سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه؛ فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، وربَّ حامل فقه ليس بفقيه". ( )
2-دلالة القياس على خلاف موجب الخبر تقتضي ألا يقبل الخبر، وعدالة راوي الخبر تقتضي قبوله، فيتعارضان وإذا تعارضا تساقطا، ولم يجُز التمسك بواحد منهما، فكان لا بد من مرجح وهو فقه الراوي. ( )
وأجيب عن ذلك بأن: في التعارض تسليمًا بصحة الخبر، وإذا صح الخبر فلا يقدم عليه اجتهاد. ( )
3-الرواية بالمعنى شاعت بين الصحابة، فإذا كان الراوي فقيهًا فإنه يجتهد في فهم معاني اللفظ المروي، ويتأمل في المعنى الظاهر والخفي، بخلاف غير الفقيه، فإنه يأخذ ظواهر المعاني ولا يصل إلى بواطن المباني، لاسيما أن الوقوف على كل معنى أراده الرسول بكلامه أمر عظيم؛ فقد أوتي جوامع الكلم، ومعلوم أن الناقل بالمعنى لا ينقل إلا بقدر ما فهمه من العبارة، فإذا كان الراوي فقيهًا، فإنه يروي الحديث بالمعنى عن بصيرة، أما عند قلة الفقه ربما يذهب عليه بعض المراد أو يزيد أو ينقص شيئًا يتغير به المعنى.( )
وأجيب عن ذلك بأن: الصحابة كانوا أكثر اعتناء بحفظ ألفاظ الحديث بعينها وتبليغ الأحاديث بهيئتها، ولذا ينقل عنهم كثيرًا الشك بين اللفظين والتردد بين الجملتين، وكانوا أشد نكيرًا على من بدّل لفظ الخبر بلفظ آخر، فمن المستبعد عنهم وإن كانوا غير فقهاء أن يبدّلوا الألفاظ ولا يتأملوا مواقع الألحاظ. ( )
ونوقشت هذه الإجابة بأنه بالرغم مما ذكر فإن كثيرًا من الصحابة اكتفى برواية المعنى غير ملتزمين للمبنى، فيظهر التفاوت بالفقه عند ذلك، كما أن الاعتناء بالألفاظ وإن كان موجودًا في الصحابة لكنه مفقود فيمن بعدهم من الرواة والأئمة؛ فإنهم جوّزوا الرواية بالمعنى، وهو مذهب أكثر الفقهاء والمحدثين، فلابد أن يعتبر الترجيح بنقادتهم في الفقه ومقدار تأملهم وأفهامهم.( )
كما أن هناك وجهًا آخر لاعتبار الترجيح بالفقه يشمل ملتزمي الألفاظ وغيرهم، وهو أنه قد يكون للحديث مورد يختص به ولا يتجاوزه إلى غيره، وقد يكون له متعلق ينكشف بضمه المقصود، أو ينحل به المعقود، فالفقيه إذا رواه يكون بعد إحاطة الأطراف، وأما غير الفقيه فيقتصر على رواية الأطراف، فتترجح عند التعارض من هذه الحيثية روايةُ الفقيه علي غير الفقيه وإن تساويا في الضبط والعدالة وسائر شروط الصحة.( )
4-الفقيه يميز بين ما يجوز روايته وما لا يجوز، فإذا سمع كلامًا لا يجوز إجراؤه علي الظاهر لا يجترئ على روايته في أول النظر، بل يفحص عن معناه ويسأل عن سبب وروده فيطلع على ما يزيل إشكاله ثم ينقله، وهذا بخلاف غير الفقيه؛ فإنه لا يقدر على ذلك فينقل القدر المسموع، وربما كان ذلك القدر وحده سببًا للخطأ في الفهم.( )
5-اشتهر بين الصحابة الأخذ بالقياس ورد خبر الواحد إذا لم يكن فقيهًا، ومن ذلك: موقف ابن عباس من حديث أبي هريرة في الوضوء مما مست النار؛ حيث روى أبو هريرة ، قال: "قال رسول الله : الوضوء مما مست النار ولو من ثور أقط، قال: فقال له ابن عباس: يا أبا هريرة أنتوضأ من الدهن؟ أنتوضأ من الحميم؟ قال: فقال أبو هريرة: يا ابن أخي إذا سمعت حديثًا عن رسول الله فلا تضرب له مثلًا"، فلم يقبل ابن عباس هذا الحديث وعارضه بالقياس. ( )
وأجيب عن ذلك بأن: ما ذكر من ردهم خبر الواحد إنما هو لأسباب عارضة لا لترجيحهم القياس عليه، فاستبعاد ابن عباس خبر أبي هريرة هنا ليس تقديمًا للقياس بل استبعادًا للخبر لظهور خلافه.( )
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
21-04-2016
اشتراط الفقه في راوي الحديث المخالف للقياس
